تعدُّ بيوت الطين والحجر في محافظة "طرطوس" أحد فنون العمارة القديمة، التي ورغم بساطتها، فإنها راعت شروط هندسة البناء التي سادت في تلك الأزمنة، فحافظت تلك البيوت على متانتها رغم تقادم السنين، في بيئة جغرافية هي قاسية بالمجمل من حيث شدة البرودة شتاء، والحرارة صيفاً، واليوم لا تزال تلك البيوت تعبق برائحة الذكريات وتحكي حجارتها تاريخ أجدادٍ مروا من هنا.

قريةُ نبع كركر

تقعُ القرية على السفح الغربي لجبل السن وترتفع 440 م عن سطح البحر في محافظة "طرطوس"، سكنها الفينيقيون والبيزنطيون والرومان قديماً، وهي امتداد لأكبر مستوطنة فينيقية أروادية في جبال الساحل "السوري" الجنوبي، وفيها كنيسة "مار يوحنا المعمدان" التي تعود إلى عام 1620، حيث صُنّفت في مديرية الآثار السورية ككنيسة أثرية وتقام فيها الصلوات حتى الآن .

في القرية أيضا قصر "أبو متري" الغني بالحكايا القابعة خلف الجدران وواجهة المنطقة آنذاك .

بناء مزج بين الطين والحجارة

في حوار خاص لمدوّنة وطن يستذكر ابن القرية "نديم جبرين" المغترب في "البرازيل"، كثيراً من حكايا الزمن الجميل وتاريخ القرية وقصر "أبو متري"، يقول "جبرين": "كانت قريتنا عبارة عن (حرش) تعيش فيه الحيوانات البرية والضارية، ولم يكن هناك بيوت على الإطلاق، فمعظم عائلات القرية جاءت من مناطق متفرقة حالها حال معظم سكان القرى الأخرى، فعائلة "جبرين" مثلاً "فلسطينية" الأصل، جاؤوا إليها بعد أن قام أحد شباب العائلة بقتل جندي بريطاني".

يتابع "جبرين" حديثه للمدوّنة قائلاً: "قصة "أبو متري" واحدة من القصص المتداولة على ألسنة الناس، حيث تعود جذور عائلته إلى "روسيا"، وتحديداً من الشمال الغربي "الروسي" قدموا إلى "سورية" الطبيعية هرباً من ويلات الحروب آنذاك، ليستقر بهم الحال في "لبنان"، وقسم آخر في "سورية".

قصر من 20 غرفة

بُني القصر، بحسب ما يبين" جبرين"، حوالي عام 1850 باستخدام وسائل البناء البسيطة التي كانت سائدة آنذاك، وبسواعد رجال القرية الغنية بحجارتها الصلبة والكبيرة، وكانت وسيلة النقل ظهر الجاموس والأحصنة والبغال، أو بدحرجة الحجارة على مسافة 5 كم في الأراضي، فتم بناء أول الأقسام باستعمال الطين، وفيما بعد ومع التطور العمراني استكمل البناء ودُعّم بمادة الكلس (التي توازي الإسمنت حالياً).

قرى ومدارس

أثناء زيارة مدوّنة وطن للقصر في قرية "نبع كركر" التقينا بأحد أقرباء العائلة وهو الدكتور "علاء كوزاك"، الذي يقول: كان "أبو متري" تاجر كريستال بين "طرابلس" و"مرسيليا"، وكانت تجارته مزدهرة جداً، وأثناء إقامته هنا، اشترى وولده "متري" الكثير من الأراضي والقرى، كقرية "البارقية" وساهم بنهضة المجتمع مادياً وتربوياً".

حتى الأبواب بنموذج معماري

ويضيف: "في تلك الحقبة من الاحتلال العثماني لـ"سورية" باءت محاولات بناء المدارس بالفشل في مدينة" طرطوس" و"صافيتا" و"مشتى الحلو"، بناء على رغبة أغاوات تلك المناطق، فالقضاء على الجهل كان يشكل خطراً على مصالحهم الشخصية، بعكس "أبو متري" وولده حيث عاشا معظم حياتهما في "طرابلس" وزارا الغرب وتأثرا به وبالتالي سعيا لبناء أول ابتدائية في قرية "نبع كركر"، وكان لهما الفضل في بنائها عام 1912 وهي الابتدائية الأولى في محافظة "طرطوس".

محتوياتُ القصر

بدوره يستعرض "شدود طنوس" وهو حفيد "نبيه متري كوزاك"، محتويات القصر، فهو يتألف من طابقين و20 غرفة ..غرف منامة العائلة وأخرى مخصصة للضيوف، وصالة الاستقبال الكبيرة، ويوجد في الخلفية سجن صغير بالإضافة للحمامات والمطبخ الواسع الذي يتسع لعدد من النسوة اللواتي يطبخن لإطعام ضيوف سيد القصر، إضافة للإسطبل.

ويشير" طنوس" إلى أن جدران القصر كانت تحتوي على خزائن تستخدم لحفظ المواد الغذائية التي تُصنع يدوياً من قبل نساء القرية، فيصنعن اللبن والجبن والسمن البلدي والكشك والخبز والهبول، ويوجد في جميع الغرف مكان خاص يسمى"بالمطواة" يتم عليه ترتيب الفراش العربي الذي يصنع من صوف الغنم، إضافة إلى اللحف التي تصنع من المادة نفسها، والبسط التي تستخدم لفرش الأرضية في أوقات الشتاء ، حيث تصنع هذه البسط من "شعر الماعز"، وتوجد أيضا "جرة خاصة" تستخدم لحفظ الماء وكانت تسمى قديماً "الخابية" وتوضع في زاوية البيت من الداخل أو الخارج، وتستخدم للأغراض المنزلية كالشرب والطبخ.

تبقى الذكريات

ويتابع "طنوس" حديثه بالقول: "بعد استلام "متري" زمام الأمور من والده المتوفي، تزوج وأنجب ابنه البكر "نبيه" الذي بدوره تزوج، وبعد فترة من الزمن وبسبب تراجع تجارته وسوء الوضع المادي، قرر الهجرة إلى" البرازيل" مع عائلته، باستثناء ابنته البكر "سلوى" (والدتي) التي كان عمرها آنذاك 13 عاماً، والتي تركها والدها "نبيه" في القصر مع جدتها العجوز لتعتني بها.. وتهاجر العائلة وتبقى "سلوى" وحدها مع الجدة، واليوم يمتلك القصر حفيد "سلوى" المقيم في القرية، ويحاول قدر الإمكان المحافظة على ما تبقى من معالمه".

ويختم "طنوس" بالقول: "استحوذ الفلاحون على أراضي "نبيه متري"، وقرية البارقية وسواها من ممتلكاته، وفقدت مقتنيات القصر الثمينة بسبب الإهمال والسرقات، كالشمعدانات والثريات والأراكيل الكريستالية".