تكثرُ في محافظة "طرطوس" المزاراتُ الدينية الإسلامية والمسيحية التي يعود تاريخ الكثير منها إلى آلاف من السنين مضت، ومعظمها يقع في مناطق تحيط بها الغابات والإطلالات الجبلية، ما أكسبها إلى جانب أهميتها الدينية والروحية أهميةً سياحيةً وجعل منها قبلةً للباحثين عن الراحة والسكينة، هذا إلى جانب دورها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي المهم.

دوافعُ روحيّة

"هيفاء محمد" التي فقدت ولدها منذ عدة سنوات بعد معاناته مع مرض عضال، اعتادت أن تقصد أحد المزارات في قريتها لتجلس ساعات تناجي الخالق وتطلب لروح ابنها الرحمة والمغفرة، وتجد في هذا سكينةً لروحها أيضاً، حالها كحال "فداء سلامة" التي قدّمت ولدها شهيداً، وقد نذرت يوم دفنه في مقبرة مجاورة لأحد المزارات، أن تشعل البخور يومياً على نية الرحمة له ولرفاقه، فلربما يجد قلبها سكينته أيضاً وتجد روحها صبراً على ألم الفراق بحسب تعبيرها.

كان لأصحاب هذه المزارات مكانةٌ اجتماعيةٌ ودينيةٌ اكتسبوها بالعمل الصالح والقدوة الحسنة، والكثير منهم كانوا على درجة عالية من الثقافة في اللغة والفلسفة، لذلك اكتسبوا تقدير مجتمعهم، ونتيجةً لهذه المكانة أصبحت أماكن دفنهم مزارات يقصدها الناس طلباً للراحة النفسية، وفي وقتنا الحاضر تحوّلت إلى نوع من السياحة الدينية والبيئية، كونها مناطق حافظت على غطائها النباتي الطبيعي الذي أسهم في جذب الزوار للتمتع بجمال الطبيعة أيضاً، وشكلت أيضاً أماكنَ للتعارف الاجتماعي وأسواقاً لتبادل المنتجات الريفية، وملتقيات ثقافية حيث تقام إلى جانب بعضها مهرجانات وملتقيات لأعلام الثقافة والأدب في "سورية" بأكملها، كما كانت المزارات وما تزال نواةً لتشكيل جمعيات خيرية أسهمت في تقديم المساعدة للفقراء والمرضى، وحالياً لأبناء الشهداء ومصابي الحرب

قيمةٌ مضافةٌ

وفضلاً عن المكانة الدينية والروحية للمزارات، فقد وفّر الكثير منها فرص عمل ومصدر دخل للعديد من الأسر في المنطقة وخصوصاً تلك المزارات التي يكثر التوافد عليها، فثمة من يقوم بعرض منتجاته من صناعات يدوية تراثية كالمسابح المصنوعة من بذار الزيتون، والمباخر المصنوعة من الفخار، ومناديل الحرير يدوية الصنع، ومصاصات المتة المصنوعة من القصب ومقالي الفخار، وجميعها من المنتجات المطلوبة من قبل زوار تلك الأماكن، أيضاً هناك من يبيع بعض المنتجات الزراعية ومنهم "إلهام الخليل" وهي فتاة صماء بكماء، لها أسلوبها الخاص والمحبب في التواصل مع الزائرين الذين يشترون منها مؤونتهم من الجوز والثوم والبصل والأعشاب الطبية، وبعض أنواع المربيات وأصناف الأغذية التي يشتهر بها الريف الساحلي، أما "محمود حسن" فقد أقام مشروعه الخاص إلى جانب واحد من أهم المزارات الدينية في منطقة "القدموس" وهو عبارة عن تنور يصنع بوساطته الخبز والفطائر بأنواعها، تقدم للزائرين مع كأس من اللبن كامل الدسم بأسعار تعدُّ مقبولة من جانب، ومن جانب آخر تحقق له مصدر دخل يساهم في تأمين عيشة كريمة لأبنائه الصغار.

مقام الشيخ صالح العلي وكنيسة الباصية الأثرية

أهميةٌ ثقافيةٌ واجتماعية

وتعود معظم المزارات الدينية في جبال الساحل، لشهداء دافعوا عن هذه الجبال ضد المغول والحملات الصليبية والاحتلال العثماني، ومنهم في تاريخنا الحديث من حارب ضد الاحتلال الفرنسي كالشيخ "صالح العلي" مثلاً، وحسب ما يقول "علي كامل" وهو من رجال الدين: «كان لأصحاب هذه المزارات مكانةٌ اجتماعيةٌ ودينيةٌ اكتسبوها بالعمل الصالح والقدوة الحسنة، والكثير منهم كانوا على درجة عالية من الثقافة في اللغة والفلسفة، لذلك اكتسبوا تقدير مجتمعهم، ونتيجةً لهذه المكانة أصبحت أماكن دفنهم مزارات يقصدها الناس طلباً للراحة النفسية، وفي وقتنا الحاضر تحوّلت إلى نوع من السياحة الدينية والبيئية، كونها مناطق حافظت على غطائها النباتي الطبيعي الذي أسهم في جذب الزوار للتمتع بجمال الطبيعة أيضاً، وشكلت أيضاً أماكنَ للتعارف الاجتماعي وأسواقاً لتبادل المنتجات الريفية، وملتقيات ثقافية حيث تقام إلى جانب بعضها مهرجانات وملتقيات لأعلام الثقافة والأدب في "سورية" بأكملها، كما كانت المزارات وما تزال نواةً لتشكيل جمعيات خيرية أسهمت في تقديم المساعدة للفقراء والمرضى، وحالياً لأبناء الشهداء ومصابي الحرب».

كنائس قديمة

تضم محافظة "طرطوس" الكثير من المزارات الدينية التي تشكّل قبلةً للزائرين المسيحيين والمسلمين على حدّ سواء لما تحمله من قيم روحية وعراقة تاريخية كون أن معظمها يعود إلى فترات قديمة جداً منذ بداية التبشير بالدين المسيحي، منها كنيسة صغيرة تقع تحت متحف "طرطوس" وهي كنيسة السيدة العذراء التي تم بناؤها منذ زمن السيدة "مريم العذراء" ودشنها "بطرس الرسول" عندما كان مسافراً إلى "روما"، وهي أول كنيسة في العالم تحمل اسم السيدة "مريم العذراء"، ومن المزارات القديمة جداً كنيسة الملاك "ميخائيل" في "صافيتا"، وقد أعيد بناؤها في منطقة البرج بعد أن تهدمت بفعل القدم، أيضاً دير "مار الياس" (الريح)، ودير "مار الياس" في "صافيتا"، ورقاد السيدة في منطقة "السودا"، وكنيسة "اللولية"، ومغارة قرية "صايا" وكنيسة "الباصية" الموغلة في القدم، وغيرها الكثير من المزارات المسيحية.

ويقول الأب "انطانيوس" من كنيسة السيدة في منطقة "السودا": «يأتي الزائر إما بدافع الإيمان أو بدافع الفضول، وخاصةً أن هذه المزارات والكنائس معظمُها قديمٌ جداً وعمرٌه من عمر الدين المسيحي، لذلك لا بدّ من التعريف بأننا من أصل هذه الأرض ونحن أبناء وأحفاد المسيحيين الأوائل، وهنا لا أقصد مسيحيي "طرطوس" فقط إنما المسيحيين في "سورية" كلها، نحن جميعاً ولدنا هنا منذ فجر المسيحية، ومن بشّرنا هم تلامذة السيد المسيح، ومزاراتنا غنية بقيمها التاريخية والثقافية، ومن خلالها نمارس دورنا الروحي والاجتماعي كرجال دين في إنصاف المظلوم وإعانة البائس والمريض وحل المشكلات والخلافات، وفي التوعية والتثقيف والتعليم من خلال إقامة الدورات لطلاب مختلف المراحل الدراسية، إضافة إلى إقامة الكثير من ورشات تعليم المهن كالخياطة وصناعة الصابون وصب الشمع، بالإضافة إلى مسؤولية رعاة المزارات عن تنظيم الرحلات الترفيهية والتثقيفية، وغيرها من الأنشطة المتنوعة».