تصليح الأقفال وصب المفاتيح مهنة تراثية قديمة لدى أبناء "حلب" لها خصوصيتها التي تتطلب من العاملين فيها المهارة والدقة والتركيز العالي والهدوء، وقبل كل ذلك الأمانة والثقة، وقد تختلف الصناعة في هذا الكار بين حرفي وآخر، كل حسب عمره وخبرته في هذا المجال، وفي "حلب" وحي "ميسلون" اشتهر وذاع اسم أولاد "البابللي" قديماً وحديثاً بمهارتهم في هذا الكار وإصلاح أصعب الأقفال المعقدة، وكذلك صب المفاتيح بأشكالها المتنوعة للأبواب و"الكاصات" والسيارات والمحلات والمنازل.

مهنة متوارثة

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار محل "صخر بابللي" الملقب بـ "أبو ديبو"، ليروي للمدوّنة أصول وخفايا هذه المهنة التي ورثها عن والده ويقول: «لدي أنا وأشقائي هنا في حي طلعة "ميسلون" ثلاث محلات متلاصقة متخصصة بإصلاح الأقفال وصب المفاتيح، وعمر محلاتنا هنا يفوق الستين عاماً، قضيناها في تعلم هذه المهنة، التي تحتاج للتدريب فترة طويلة والدقة والتركيز والرغبة في تعلمها قبل ممارستها، وبالنسبة لي دخلت المحل وأنا يافع بعمر ستة عشر عاماً، وكان والدي من شيوخ الكار والمشهورين بالمدينة بهذه المهنة، كان الزبائن يأتون إلينا من مختلف أنحاء المدينة والريف وحتى من المدن القريبة الأخرى، كنت أراقب حركات يد والدي وهي تفرط القفل تارة وتصب المفاتيح على الماكينة الخاصة تارة أخرى، مع سرعة استخدام المفكات في حل البراغي وإعادة تجميع القفل، وشيئاً فشيئاً تشكل لدي انطباع عن أصول العمل بالمهنة، وبعد وفاة والدي استلمنا أنا وأخي الكبير إدارة شؤون المحل، ووزعنا العمل بيننا ليأخد هو العمل الأصعب بإصلاح الأقفال ويترك لي العمل الأسهل وهو صب المفاتيح المتنوعة مثل (الجوزة والمنازل والمحلات والسيارات)».

أحاول تعلم المهنة التي أكسب منها رزقي لأساعد أهلي، هي مهنة ممتعة ولكنها تحتاج الكثير من الصبر لإتقانها، وأهم شيء فيها الإخلاص في العمل وكسب ثقة الزبائن والأمانة لأنها مهنة حساسة ولا مجال فيها للتساهل

ويضيف: «بعد فترة بدأت تستهويني مهنة تصليح أقفال السيارات التي كانت تستخدم في البلد بتلك الفترة مثل "الدوج" و"المرسيدس" و"الفوكس فاكن" و"البوزنغ"، وبدأت أتردد إلى سوق "الشقيف" لشراء الأقفال المستعملة للسيارات كي أعيد فرطها وتصليحها من جديد، ورويداً رويداً زادت خبرتي، وبعد فترة تفارقنا أنا وأخي وأصبح لكل واحد منا محله الخاص به».

نموذج من الأقفال والمفاتيح القديمة

تخصصات

تجريب القفل والمفتاح بعد الاصلاح

مهنة تصليح الأقفال وصب المفاتيح تحتاج كما يقول "بابللي" إلى التعلم الدائم والمتابعة المستمرة، وفيها الكثير من التخصصات «عندما كنت أجد صعوبة في إصلاح أي قفل كنت آخذه للمعلم "سركيس" بسوق "بستان كليب" وأحاول الوقوف فوق رأسه لاكتشاف الثغرة التي صعبت علي والتعلم دون أن أشعره بذلك وأنني من أصحاب الكار، وكذلك عند إصلاح أقفال "الكاصات" كنت أذهب لأولاد "الأيوبي" في سوق" المدينة" وهم مختصون بإصلاح "الكاصات" فقط وكان يشترط علي عدم الوقوف بالمحل أثناء الإصلاح، ومع تقدم السنوات والخبرة التي اكتسبتها لم يعد يصعب علي شيء حتى أطلق أهالي "حلب" علي المثل (أبو ديبو مافي شي بيصعب بأيده).. ولدينا طرقنا ووسائلنا الخاصة مع خبرة المهنة لفتح أقفال الأبواب عند طلب أصحابها والتأكد من ملكيتها بمعرفة الأهالي والجيران وأصحاب الشأن».

بين الماضي والحاضر

ويشير "بابللي" إلى أن شكل المفاتيح والأقفال تبدل مع مرور الزمن، ففي السابق كانت المفاتيح مصنوعة من الحديد والنحاس، وهي طويلة وتم صبها على الرمل من نوع (قلابة)، واشتهر سابقاً بمدينة "دمشق" محل "أنيس" على طريق المطار بصناعة وصب المفاتيح للأبواب والمنازل والسيارات بشكل جيد وكان يغذي ببضاعته أغلب المحافظات السورية.

برد مسننات المفتاح قبل تسليمه

ويتابع "البابللي": «كانت الأقفال سابقاً مصنوعة من الحديد، وكان يصل وزن أحدها للربع كيلو وهي تناسب ضخامة الأبواب الخشبية الثقيلة المدججة سواء لأبواب الخانات أو المحلات أو المنازل، فكان يلزمها أقفال ثقيلة تصب وتبرد عند الحدادين في حي "باب الحديد"، ثم تطور العمل وأصبحت تصب على الرمل، بينما تغيرت في الوقت الحالي وأصبحت أصغر في القفل والمفتاح ولها سهولة في الحمل وأغلبها مستورد وبتكلفة أقل من تصنيعها».

ويشكو الحرفي "أبو ديبو" من بعض الركود الحالي في سوق مهنته والمصاريف الزائدة نتيجة ارتفاع تكاليف مستلزمات العمل وارتفاع المحروقات وانقطاع الكهرباء ما يضطره لتشغيل مولدة الكهرباء التي تحتاج لمصروف كبير للمحروقات.

ويقول: «بعكس الأعوام السابقة التي كانت تشهد ازدحاماً للسيارات أمام المحل للحصول على دور لتصليح الأقفال وصب المفاتيح، بتنا نغلق باكراً لقلة الزبائن ولتخفيف المصاريف، إضافة إلى أن أغلب أصحاب السيارات لا يعمدون إلى تحريك آلياتهم إلا عند الضرورة مما يقلل أعطال الأقفال، كما أن نوعية السيارات الحديثة التي لا تحتاج للمفاتيح فهي تعتمد على البصمة والأرقام، فضلاً عن أن الإقبال على تعلم المهنة قد تراجع نظراً لضعف مرودها المالي».

أصول المهنة

ولمهنة تصليح الأقفال والمفاتيح أصول ومتطلبات لا بد من اكتسابها، وهنا يرى الحرفي "عدنان حجار" أن المهنة تحتاج إلى الصبر لتعلمها وإتقانها إضافة إلى كسب ثقة الزبائن، وأيضاً التماشي مع التغيرات والتبدلات الكثيرة التي طرأت عليها خلال السنوات الأخيرة، من حيث تغير شكل القفل والمفتاح المصنوع عند الحداد أولاً ثم الصب على الرمل فيما بعد، وتغير شكل القفل والمفتاح من الثقيل والكبير والحديد للمحلات والخانات والمنازل، إلى الصغير الناعم المستورد.

وعن الرغبة في تعلم المهنة والإقبال عليها يقول: «حاولت جاهداً الطلب من العاملين لدي الصبر وإتقان المهنة لكن دون جدوى، كانوا مع أول فرصة عمل مغايرة لهم يغادرون، وللعلم هذه مهنة عظيمة تحتاج للذكاء والتفكير والصبر والهدوء، وهناك مقولة بأن "لويس الخامس عشر" في "فرنسا" كان يهوى هذه المهنة، وكان يقوم هو بنفسه بفك وتركيب الأقفال في القبو الذي تحت قصره».

"الساقط" و"الدقر"

يقول الشاب "أمجد زغير" وهو أحد العاملين في المحل: «أحاول تعلم المهنة التي أكسب منها رزقي لأساعد أهلي، هي مهنة ممتعة ولكنها تحتاج الكثير من الصبر لإتقانها، وأهم شيء فيها الإخلاص في العمل وكسب ثقة الزبائن والأمانة لأنها مهنة حساسة ولا مجال فيها للتساهل».

بينما يتذكر "يوسف حلاق" كيف كان شكل الأقفال والمفاتيح سابقاً، فكان لدى والده محل نجارة في "باب الحديد" وبابه خشبي وبداخله قفل (جوزة) ومفتاحه من الحجم الكبير مصنوع من الحديد وبطول ثلاثين سم، والمفتاح عبارة عن حلقة في الأعلى ملحومة على وصلة وفي الأسفل المسننات، كان المفتاح يطلق عليه "الساقط " والقفل "الدقر"، ويضيف: «مع كثرة الاستعمال تذوب بعض المسننات فكنا نأتي لمحل والد "أبو ديبو بابللي" لصب مفتاح جديد مع فك القفل المركب بغية تجريبه للتأكد من صلاحيته، وكان يستغرق تصنيع المفتاح الحديدي أربع ساعات ثم الصب على الرمل مدة أقل بينما الآن لا يستغرق الأمر سوى دقائق معدودة».

جرى اللقاء والتصوير داخل محلي "بابللي" و"حجار" لتصليح الأقفال وصب المفاتيح بحي "ميسلون" بتاريخ الخامس والعاشر من شهر تشرين الأول لعام 2021.