وقعُ استشهادِ الأبناء وفقدهم يثبطُ العمرَ قليلاً ولكنّهُ يوقظُ في خفايا النّفسِ البشرية الذكريات والحنين وحبّ مشاركة الآلامِ والضحكات المتشحة بالسّواد، ولذا كانت مقبرةُ "الفردوس" في "حمص" ملاذاً للمشاركة الاجتماعية وتبادل الهموم حتّى أمست في كلّ خميس مقصداً للجلوس والكلام والصمت والبكاء والضّحك، كما باتت أيضاً ساحةً للعمل التطوعي وتقديم الخدمات.

لقاءاتٌ صباحيّة

تقع مقبرة "الفردوس" في حيّ "الأرمن الشّرقي" في مدينة "حمص" وتأسست عام 1961، يوجد بها حوالي 20 ألف قبر، وشملت عدّة توسيعات فرضتها تبعات الحرب على "سورية" من جهة وتعرّض الأحياء المجاورة لسلسلة من التفجيرات من جهة أخرى.

في اللّيل أكتبُ رسائل لأولادي وأقرأها عليهم صباحاً عند قبورهم، يستمعُ إليّ أحياناً بعضُ الناس ويبكون، فالمقبرة هي المكان الوحيد الذي يعطيك شرعية التحدث مع نفسك دون إطلاق لقب مجنون عليك

تقول "أم إيفان" وهي أم لثلاثة شهداء في حديثها لـ"مدونة وطن": «كواجبٍ فرضته الأمومة عليّ الذّهاب يوميّاً مع قهوتي في السّادسة صباحاً أجلسُ عند قبور أولادي... أحتسي قهوتي وأرتب ما حولهم من ورودٍ وشجيرات صغيرة زرعتها بنفسي وأشعلُ البخور عند انتهاء أحاديثي الخاصّة مع أبنائي كإنذارٍ بوجود أحدٍ في المقبرة لتستدلّ على وجودي أمهات الشّهداء ويشاركنني قهوتي والكلام».

جانب من المقبرة

وفنجان قهوة

لقاءات المدوّنة مع ذوي شهداء

(بتصدقي أم إيفان... معرفتنا فيكي هوّنت حزنّا لأنّا فقدنا غالي بس أنتِ خسرتِ غوالي كتير والله يصبرك)... قالتها "أم إيفان" نقلاً عن لسان العديد من أمهات الشّهداء اللواتي تقابلهن في المقبرة، فهي أم لثلاثة شهداء وجريح شلل ومن شدّة حزن والدهم وأختهم عليهم فقد توفيا بشكلٍ مفاجئ، وتضيف: «في اللّيل أكتبُ رسائل لأولادي وأقرأها عليهم صباحاً عند قبورهم، يستمعُ إليّ أحياناً بعضُ الناس ويبكون، فالمقبرة هي المكان الوحيد الذي يعطيك شرعية التحدث مع نفسك دون إطلاق لقب مجنون عليك».

ازدادَ عددُ الفناجين التي تصحبها أم إيفان بشكل تصاعديّ سريع وأصبح لها أصدقاء تتبادلُ وإياهم الهموم والأحاديث بشكلٍ شبه يوميّ.

دور المجتمع المدني

بدوره يقول أبو محمد وهو والد شهيد: «قبر ولدي الشّهيد محاط بحديقةٍ صغيرة ضمن المقبرة وسيّجتها لتصبح كالمنزل، واضعاً بها كرسياً صغيراً أجلسُ عليه وأتأملُ المكان بصمت وحزن عميقين، وفي كلّ مرّة يأتي أحد ويرمي السّلام ويبدأ الحديث بتجاوبٍ بطيء منّي حتى أدركتُ أنّ حزننا مشترك وهم من سيفهمني عند صمتي ويتحمّلُ سردي المطوّل عن ولدي لأبادر أنا وأدخل بأحاديثهم المشتركة وقهوتهم الصّباحيّة».

حكاية أخرى

ولمقبرة "الفردوس" خصوصية أخرى، فعند اكتشاف مقابر جماعية في إحدى المحافظات السّورية شيّعت جثامين الشهداء إلى محافظة "حمص" وبشكلٍ خاصّ إلى مقبرة "الفردوس" فهي الحاضنة الوحيدة لهم كون محافظة "حمص" منطقة وسطى ومساحتها الجغرافية كبيرة ومشفاها العسكري يعدُّ من أكبر المشافي في "سورية".

يقول المهندس "فراس العبد الله" مسؤول مقبرة الفردوس من جمعية النهضة: «في عام 2014 وصل اثنان وستون جثماناً لشهداء مجهولي الهوية إلى مقبرة "الفردوس" وقد تمَّ تخصيص حيّز لهم ضمنها، ليتتالى بعد ذلك وصول جثامين الشهداء مجهولي الهوية حتى فاق عددهم حتى اللّحظة أكثر من ألف جثمان ولكلّ واحدٍ منهم صور وعينات خاصّة به ورقم تسلسلي، وبين الفترة والأخرة يطلب المشفى العسكري جثامين تمّ التعرّف على أصحابها وقد وصل العدد حتّى الآن إلى حوالي 25 جثماناً».

ورغم كثرتهم لا تزال المراسيم المتبعة في تشييع جثامين الشهداء مجهولي الهوية بذات الأهميّة، فتشارك بالمراسم جميع الهيئات والمنظمات الشّعبية والرّسميّة والحزبية بالإضافةِ إلى وجود عدد كبير من أهل قطاع "الزّهراء"، ويحدثنا عن ذلك "علي المحمد": «ولدي شهيد ونزور قبره ونزيّنه بالنباتات ونسقي تربته، وعند بدء توافد نعوش مجهولة لشهداءٍ لا يعرف أهلهم إن كانوا أحياءً أم أمواتاً، أشعرنا ذلك أنّنا ورغم آلامنا أفضلُ حالاً من ذويهم، لذا داومتُ على المشاركة في تشييعهم والصّلاة عليهم مع العديد من ذوي الشّهداء وأهل الحيّ، واللافت في ذلك أنّ الصّلاة تكون بمشاركة العديد من شيوخ جميع الطوائف الإسلاميّة وشخصيات دينيّة مسيحية أيضاً».

توسعة وخدمات

قبل عام 2011 لم يكن هناك مكان مخصص ضمن المقبرة للشهداء، كان فيها قبور شهداء في السّبعينيات والثّمانينيات كالشّهيدين "محمد غرّة" و"محسن عباس" وتوجد مدرستان على اسميهما، ومع بدء الحرب تمّ تخصيص مكان في المقبرة القديمة للشّهداء فقط حتّى قارب عددهم الألف فامتلأت المقبرة في عام 2013 ما دفع الجهات المعنية إلى التوّسع بها حتى امتلأت أيضاً.

ويقول المهندس "العبد الله": «تمّ الانتقال في عام 2016 إلى أرضٍ مجاورة للمقبرة القديمة والرئيسية وأوّل توسع لها كان بمساحة تقارب ثمانية عشرَ دونماً، بتخديم كامل من طرقات إلى مياه وإنارة بالتعاون مع الجهات المعنية في المحافظة، وقد أنشأت الجمعية عدّة مناهل مياه في المقبرة القديمة لكنّها تعرّضت للتخريب كما تتعرض المقبرة بشكلٍ عام لمحاولات تخريب مستمرّة حاولنا الحدّ منها بوضع حرس ومفرزة، ومن جهةٍ أخرى وبإحصائيةٍ أجريناها هناك 3 إلى 4 وفيات طبيعية بشكلٍ يوميّ تصل إلى مقبرة الفردوس فخصصنا مكاناً منفصلاً لها عن مكان قبور الشّهداء».

وعن دور كوادر الجمعية وعملها في المقبرة يقول: «تعرّضت أحياء المدينة لتفجيرات مزدوجة كثيرة ووصولِ جثامين من خارج المحافظة إليها، ما تطلبَ وجود عمّال ومتطوعين وآليات تعمل في الدّفن وتحضير القبور بشكلٍ مجانيّ بالكامل دون تحميل أي جهة هذه الأعباء وقد وصلت التكلفة التي وضعتها الجمعية لذلك إلى حوالي مئتي مليون ليرة سورية».

حملات تطوعية

ذكر المقبرة المتكرر على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيّما عند تشييع شهداء مجهولي الهوية إليها وحضور كامل المنظمات وجمعيات المجتمع المدني، جعلَ منها هدفاً للقيام بأعمال تطوّعية كثيرة تخدمُ زوّارها جميعاً، فالعديد من الفرق الشّبابية والمنظمات نفذت عدة حملات نظافة فيها بالإضافةِ إلى قيام نادي العطاء السّوري التطوعي بأنشطة متنوعة، يحدثنا عنها "سعيد المصطفى" رئيس النّادي قائلاً: «منذ خمس سنوات قمنا وعلى مدار شهر بحملة نظافة كبيرة وإعادة تأهيل الباب الرئيسي للمقبرة القديمة ووضع أحواض لنباتات في مدخلها وذلك ضمن حملة (تجميل بلدك) التي أطلقها النّادي، بالإضافة إلى وضع نصب تذكاري للجندي المجهول، وفي عيد الأضحى الأخير قمنا في صباحه بتوزيع المياه والبخور والفحم والرّيحان على جميع زوّار المقبرة».

مقبرة "الفردوس" أُطلقَ عليها مقبرة "الشّهداء" لتكون سجلّاً لحربٍ استنزفت الكثير ولا تزال، تضجُّ زواياها بدموعٍ لأعزاء، شباب وأطفال ورجال وأمهات خطفهم الموت فجأة، كما تعبقُ بألفةٍ وبساطةٍ في التعبير والتعامل.