أحدثت الآلة الكاتبة منذ اختراعها ثورةً تقنيةً جعلت الكثير من الأعمال أكثر دقةً وتنظيماً وسرعةً في الإنجاز، وعلى الرغم من أنها -في "سورية"- لم تلقَ الكثير من الترحيب في عالم العمل الفكري والفني، على عكس ما وجدته من احتضان لها في دول الغرب، إلا أنها تركت بصمتها واضحةً في الكثير من المجالات الأخرى، فكانت مصدر دخل للكثير من الباحثين عن فرصة عمل، وساهمت في تأكيد قدرة المرأة على الدخول إلى سوق العمل والإنتاج.

مصدرُ دخل

لسنوات عديدة عمل "حامد معروف" تحت مظلة بسيطة أمام دائرة النفوس في بلدته، متخذاً من الآلة الكاتبة مصدرَ دخل يعينه على متطلبات الحياة، يقول في حديثه لمدوّنة وطن: «بعد حادث أليم تعرضت له، اضطررت لترك عملي الذي يحتاج إلى مجهود جسدي، وبدأت بعد التعافي رحلة البحث عن مصدر لكسب لقمة العيش، فاقترح أحد الأصدقاء تعليمي مهنة معقب المعاملات، حينئذٍ لم يكن بإمكاني اقتناء آلة كاتبة خاصة بي، لكنني تشاركت معه العمل عليها، وحفظت كل ما تحتاجه معاملات المواطنين من صياغات معينة وطوابع وغيرها من مستلزمات المعاملات الحكومية، مقابل أجور بسيطة، نتقاسمها معاً، وبعد سفره للعمل خارج البلاد، قدّم لي آلته الكاتبة كهدية، لتصبح لاحقاً رفيقة درب العمل والكفاح، وتساهم بمدخولها البسيط بكامل تكاليف دراسة أبنائي وبناتي المدرسية والجامعية، حتى أنني من عائداتها اشتريت لابني الأكبر جهاز (كمبيوتر) مع بداية انتشار تخصص المعلوماتية في "سورية"، أما الآن مع انتشار وسائل الطباعة الأكثر حداثة، ومع تقدمي في السن، أُحلنا أنا وآلتي الجميلة إلى التقاعد بعد رحلة من الشقاء».

ليست الكتابة بالأمر الصعب، ما عليك سوى الجلوس أمام الآلة الكاتبة وابدأ النزيف

نقطةُ تحوّلٍ

في بداية تسعينيات القرن الماضي حصلت "ثناء المحمد" على الشهادة الإعدادية، ثم التحقت بإحدى الدورات التي كانت تقيمها بعض المنظمات الشعبية العاملة في منطقتها، ومن خلالها تعلمت العمل على الآلة الكاتبة، تقول "ثناء": «في ريفنا البعيد والبسيط لم يكن دخول المرأة سوق العمل رائجاً بعد، لكنني قررت المشي عكس التيار، وتحدي بعض التقاليد، فتقدمت إلى إحدى المسابقات التي سمعت عنها عن طريق الصدفة، لأكون من أوائل الموظفات في المنطقة، وهنا بدأت العمل على الآلة الكاتبة التي عددتها نقطة التحول الأكبر في حياتي، والحقيقة أنها كانت بمنزلة المفتاح لدخول الكثير من الوظائف بالنسبة للإناث، بالنسبة لي من خلال إتقان العمل عليها وحصولي على الوظيفة، تمكنت من مساعدة أسرتي والمساهمة في تطوير أعمالهم الزراعية وترميم المنزل، والأهم أنني أصبحت مثلاً يحتذى به للكثير من فتيات المنطقة اللواتي تشجعن على الدخول إلى سوق العمل والإنتاج».

الآلة كاتبة النوتة الموسيقية

عالمياً وعربياً

حتى حصلت الآلة الكاتبة على شكلها الذي نألفه حالياً، احتاجت إلى ما يقارب قرنين من الزمن، ففي العام 1714 حصل الإنكليزي "هنري ميل" على براءة اختراع أول آلة كاتبة عرفها العالم، وفي العام 1867 قام الصحفي الأمريكي "كريستوفر شولز" بتطوير أول آلة كاتبة عملية، ليحصل في العام الذي يليه على براءة اختراع، ولاحقاً أجرى عليها العديد من التعديلات حتى تمّ طرحها في الأسواق عام 1874.

وفي "مصر" تمكّن شابان لبنانيان من إدخال الحروف العربية على الآلة الكاتبة، لتكون "مصر" هي الدولة العربية الأولى التي دخلتها الآلة الكاتبة العربية عام 1914 والتي سميت آنذاك "حداد"، لكنّ المخترعينِ واجها صعوبات من حيث جهة الكتابة وتباعد الحروف وشكلها وسماكتها، لذلك عملا على إنجاز كبير تمثّل بتصميم آلة جديدة، من خلالها تم التغلب على الصعوبات كافة.

في "سورية"

يقول "إرنست همنغواي": «ليست الكتابة بالأمر الصعب، ما عليك سوى الجلوس أمام الآلة الكاتبة وابدأ النزيف»، وهو الكاتب الذي أمضى سنوات من حياته يطبع أفضل ما قدم من أعماله على الآلة الكاتبة القديمة مستخدماً إصبعاً واحداً، وكذلك الكاتب الكولومبي "غابرييل غارسيا ماركيز" وغيرهم، لكن قلّ ما تجد في العالم العربي وتحديداً "سورية" من استخدموا هذه الآلة في المجالات الإبداعية كالأدب والصحافة والفن، بل اقتصر استخدامها كما أكّد بعض الأدباء والصحفيين المخضرمين على الأعمال المكتبية والخدمية والمراسلات، وكان التبرير دائماً آنذاك أن الإبداع أياً كان لا بدّ أن يكون مرتبطاً بالقلم وحده، لذلك رفضوا استخدام أيّ تقنية حديثة خصوصاً في المجال الصحفي، ومعظمهم ما يزال يتبع النهج ذاته في الرفض حتى يومنا هذا.