رغم سنين الغربة الطويلة التي قضاها بعيداً عن وطنه، إلا أنّ الروائي وعالم الاجتماع الدكتور "حليم بركات" ابن محافظة "طرطوس"، ظلّ يحمل هموم الوطن في قلبه في حله وترحاله، فهو العاشق "للضيعة" التي نشأ فيها في طفولته بكل تفاصيلها حيث رافقته أنى اتجه، وهو المحبّ لشرقيته رغم تعليمه الغربي، والمناصر لقضايا المرأة التي تعلّم منها معنى الإصرار والإرادة.

مسيرةُ حياة

وُلِد الدكتور "حليم بركات" عام 1936 في قرية الكفرون التابعة لمحافظة "طرطوس" توفي والده وهو في العاشرة من عمره، لتنتقل العائلة بعدها إلى "بيروت"، وتولّت أمه رعايته وأخوته، كان حلم حياتها حصولهم على أعلى الشهادات، وكان لها ما أرادت.

أثناء دراسة "بركات" العلوم الاجتماعية في الجامعة الأمريكية في "بيروت" تزوج من السيدة "حياة" رفيقة دربه ورواياته وعكازة شيخوخته.

مشوار حياة طويل

حصل على الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي عام 1966 من جامعة "ميشيغان"، عمل بالتدريس في "الجامعة الأمريكية ببيروت" 1966-1972، وفي جامعة "هارفرد" 1972-1973, ثم في جامعة "تكساس" 1975-1976. لينتقل أخيراً للعمل في جامعة "جورج تاون الأمريكية"، وأمضى فيها 27 عاماً قضاها في البحث والتدريس، لتتنقل حياته بين مهنة التدريس في الجامعات الأمريكية والكتابة، فألّف ما يقارب العشرين كتاباً، وكتب خمسين مقالاً عن المجتمع والثقافة، ليكون اسمه حاضراً بقوة في أهم المجلات، مثل "المجلة البريطانية لعلم الاجتماع"، ومجلة "الشرق الأوسط"، و"المواقف"، و"المستقبل العربي".

نتاجٌ روائيّ

ولعلّ المتتبع لنتاج الدكتور "بركات" الروائي يلمس ما يساوره من قلق واضح حول تفكك المجتمع العربي والتداعيات الخطيرة التي حصلت، ونتائجها الكارثية على الكيان العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص، بدءاً بالهجرة وأزمات المجتمع، إلى خوفه على الهوية والعدالة المفقودة حسب وصفه.

عاشق للضيعة

مسيرة الكاتب الروائية تضمن إصداره سبع روايات ومجموعة قصصية، غنية بالرمزية التي تناولت أحداث العالم من وجهة نظر خاصة ليرتبط أسلوبه بلغة السهل الممتنع.

ومن أهم رواياته: "القمم الخضراء 1956، الصمت والمطر 1958، ستة أيام 1961، عودة الطائر إلى البحر 1969، الرحيل بين السهم والوتر 1979، طائر الحوم 1988، إنانة والنهر 1995، والمدينة الملونة 2006"، ومن كتبه التي تضمنت دراساته: "المجتمع العربي المعاصر 1984، حرب الخليج 1992، المجتمع العربي في القرن العشرين 1999، الهوية أزمة الحداثة والوعي التقليدي 2004، والاغتراب في الثقافة العربية 2006".

المرأةُ والوطن

يقول "فادي بركات" أحد أفراد العائلة: "تعلّم "حليم بركات" من الغربة الاستقلاليةَ، خاصة بعد يتمه المبكر بوفاة والده، وتأثره الكبير بقوة شخصية والدته المكافحة، فكان للمرأة حضورٌ في رواياته، فهي الأم والحبيبة والمقاتلة، وهي أيضاً تلك التي وصفها في رواياته بالضلع القاصر في مجتمعات ما زالت تتبنى ذكورية التفكير والممارسات، لتلحظ تعاطفه الكبير مع المرأة المظلومة كما في روايته "إنانة والنهر".

ويضيف: "حافظ "بركات" على الكثير من العادات السورية المحببة إلى قلبه، كان الأب الروحي لكثيرين من أبناء الوطن في الغربة، وبالرغم من انشغاله الدائم، كان يعطي حصة كبيرة للتواصل الاجتماعي مع الآخرين، هذه العادة النادرة تقريباً في المجتمع الغربي".

وعن الجانب الإنساني في حياة "حليم" يقول: جمع في شخصه التوازنَ بين الغرب والشرق، ترجم حبّه للوطن بلغته الوطنية والأدبية المتفردة، وكان للبيئة الريفية وقعٌ خاصٌ صقل روحه وميّزه بالفطرة والتلقائية، فاستحوذت على ذاكرته مشاغبات الطفولة، وطرقات "الضيعة" الضيّقة، رائحة خبز التنور وحكايا "ختيارية" الضيعة".

ويشير "فادي بركات" في حديثه للمدوّنة إلى أهم القضايا التي كانت تحتل حيزاً من هاجس الدكتور العروبي العام والفلسطيني بشكل خاص، ومدى تأثره بتداعيات الحرب الأخيرة على "سورية" التي تركت أثراً محزناً فيه، وزاد الطين بلة حرمانه من زيارتها بسبب الحرب وتزامن ذلك مع تردي وضعه الصحي.

آخر كتبه

وعن تفاصيل حياته اليومية يقول "فادي": كانت أحب هواياته رياضة المشي وخاصة في الطبيعة.. كان يحب الموسيقا وتحديداً الموسيقا الشرقية، ويفرح عند سماعه موسيقا أو أغاني الدبكة الشعبية، وكثيراً ما كان يشارك الشباب في حلقة الدبكة بروح تضج بالحياة".

يختتم "فادي بركات" حديثه لمدوّنة وطن بالإشارة إلى أن آخر ما كتبه د."حليم" كان عن "العراق"، لكن للأسف خانته صحته وحالت دون انتهائه منه، أما المسؤول الحالي عن مكتبة د."حليم بركات" وعن مؤلفاته هو ابن أخته الدكتور "بشارة دوماني" الذي يأمل أن يهب النور لمؤلفات الروائي التي لم تنشر بعد.

طائرُ الحوم

كانت حياته حافلة بالسفر وحضور المنتديات الأدبية والمهرجانات، واحتفت به كثير من الدول العربية وكرمته، ومنها بلده "سورية" إضافة إلى "لبنان" و"فلسطين" و"المغرب" و"تونس" وترجمت كتبه إلى الإنكليزية واليابانية.

يسرد سعد شحود في حديثه لمدوّنة وطن عن صداقته مع الدكتور "حليم" ويقول: " لقائي الأول به كان في" ديترويت"، في "الولايات المتحدة" في مطعم صديق مشترك لنا، كان شخصية رصينة، هادئة، لطيفة المعشر، تقرأ في خطوط وجهه مشوارَ حياةٍ طويلاً، كان يتحدث بثقة وثقافة مميزتين، في جلستنا تلك سأل د."بركات" عن مدى معرفتي بطائر الحوم، فأجبته بما أعرف عنه، وكيف أن هذا الطائر يحلّق في السماء مع السرب بشكل منتظم، ويعدّ بمثابة إنذار ينبه عن اقتراب هطول المطر، وكنا نقول عنه أنه راوي الأرض العطشى، ومن المعلومات الطريفة حول هذا الطائر أننا كنا نصنع من رجليه (مشرباً) للتدخين، فاستلهم د."بركات" من الطائر روح رواية جديدة كانت رواية "طائر الحوم".