لم تترك السيدة "صديقة العقيبي" عملاً إلا واشتغلت به، لتنهض بأعباء الحياة وتؤمّن متطلبات عائلة كبيرة مؤلفة من تسعة أطفال تركهم لها زوجها المتوفى، فكانت لهم الأم والأب والمعيل، فالعمل بالزراعة وجمع الحطب، مروراً بتجارة الحليب ووصولاً إلى صناعة أطباق القش وحياكة الصوف، كلها كانت محطات شاقة في حياة السيدة، استطاعت من خلالها تقديم أنموذج يحتذى للمرأة العصامية التي لا تعدم الوسيلة في سبيل تنشئة أبنائها.

كانوا صغاراً

لم تهنأ "صديقة" بزوجها طويلاً، فقد توفي زوجها تاركاً لها تسعة من الأبناء، أربعة منهم كانوا أبناء زوجها من امرأة أخرى قبلها وخمسة من صلبها، كانوا صغاراً عندما رحل الزوج، فكان عليها أن تتحمل أعباء تربيتهم جميعاً، وتنهض بمتطلباتهم، فباشرت -بادىء الأمر- العمل بالزراعة لتأمين مصاريف البيت التي ما فتأت تزداد تباعاً، وكان لا بدّ معها من خلق فرصة عمل جديدة، فبدأت العمل ببيع الحليب في منازل حي "القوز" الملاصق لقريتها "بعمرائيل" التابعة لمدينة "بانياس".

كانت تقضي ساعات في تصفية الحسابات، وتهيئة أعمال اليوم التالي، فتغادر إلى منزلها الكائن في أحضان الطبيعة، وحتى لو كان الوقت متأخراً كانت ترفض أن يرافقها أحد، فتغادر تحت جنح الظلام غير عابئة بالليل ووحشته

يقول "إبراهيم علي" أحد أبناء المنطقة الذي عرف "صديقة" عن قرب من خلال العمل معها في تجارة الحليب: «كانت تقضي ساعات في تصفية الحسابات، وتهيئة أعمال اليوم التالي، فتغادر إلى منزلها الكائن في أحضان الطبيعة، وحتى لو كان الوقت متأخراً كانت ترفض أن يرافقها أحد، فتغادر تحت جنح الظلام غير عابئة بالليل ووحشته».

صديقة العقيبي

بداية المهمة

خلال عملها بالحقل

بدأت قصة كفاح السيدة "صديقة" عندما تزوجت وهي في سن العشرين من رجل توفيت زوجته تاركةً خلفها أربعة أطفال صغار، وهنا قالت: «أنجبت خمسة أبناء وكان لزوجي أربعة من زواجه الأول، ليصبح قوام عائلتنا تسعة أطفال أكبرهم لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر عاماً، وأصغرهم لا يتعدى عمره الأشهر، وهذا ما جعلني الأم والأب والناصح والمعيل، وكل شيء في حياتهم بعد رحيل والدهم الذي ترك فراغاً كبيراً حاولت سده بصعوبة بالغة، ولكنه استهلك أجمل أيام حياتي».

مشوار التعب

يبدأ مشوار يوم العمل عند "صديقة" مع تجارة الحليب في كل صباح، الذي ما إن تنهيه حتى تنطلق للعمل في الزراعة، المكشوفة منها أو ضمن البيوت المحمية، مع ما يحمله العمل من مشقة التعرض طويلاً لأشعة الشمس اللاهبة، وتضيف: «كنت أحاول إنهاء العمل الموكل إليّ قبل منتصف النهار، لأعود إلى أولادي الصغار وأتدبر أمورهم بسرعة، ومن ثم أذهب إلى عملي الثاني وهو تدبر أمور بقرتي الوحيدة التي ورثتها عن زوجي، إضافة إلى جمع الأغصان اليابسة من البرية لزوم تأمين تدفئة أيام الشتاء وبيع الفائض منها يومياً لتأمين متطلبات العائلة».

وتتابع: «لم أحلم يوماً كما بقية السيدات بالرفاهية وامتلاك المصاغ الذهبي، وإنما كان حلمي تأمين حاجات عائلتي، وخاصة خلال مواسم الإنتاج الزراعي كقطاف الزيتون وتعفير الثمار عن الأرض وقطاف البندورة، ورغم انشغالي بالعمل، أمارس حياتي اليومية كما بقية السيدات، فلدي صديقات أسهر معهن يومياً وأعود إلى منزلي بين الأحراش دون خوف».

من جديد

سنوات قضتها السيدة "صديقة" على هذه الشاكلة، ورغم تقدمها بالسن وزواج أبنائها، وبقائها وحيدة، ورغم استشهاد أحد أبنائها، إلا أنها كانت في كل مرة تنهض من جديد وتتابع حياتها، فقد استطاعت أن تبتكر لنفسها عملاً يتناسب مع سنها، وتشير إلى أنها اتجهت للعمل في تشكيل أطباق القش وبيعها، لتكفي نفسها وتقف إلى جانب أبنائها في حياتهم.