منذ آلاف السنين انطلق البحارة الفينيقيون يخطّون حكايات رحلاتهم البحرية التي جابت المحيطات والبحار، واليوم يواصل أحفادهم السوريون صياغة تفاصيلها في كل بحار العالم.

في "سورية" بدأت حكايات البحر والبحارة من "المينا البيضا" المرفأ الرئيسي لمدينة "أوغاريت"، وقد ترافق ازدهاره مع العصر الذهبي لهذه المدينة، التي عدّت من أهم مدن المتوسط تجارياً واقتصادياً، فقد كان لها أسطولٌ تجاريٌّ ضخمٌ كتب عنه د. "غسان القيم" مدير آثار "أوغاريت" بقوله: «عدّت من أكبر القوى البحرية، حيث ضمّ أسطولها التجاري حوالي مئتي سفينة تجارية، كانوا يبنون سفنهم مستعملين أخشاب غابات الأرز، وسرعان ما أصبحوا ملّاحين مهرة، فاكتشفوا طرقاً بحريةً لم تكن معروفة قبلهم، وكان البحارة الأوغاريتيون يهتدون في رحلاتهم بالنجوم ومجموعة "الدب الأصغر"، وكانت الجزر المنتشرة تشكل لهم محطات في أسفارهم البعيدة، وبدأ تأثيرهم الاقتصادي والثقافي والديني في كل أنحاء غرب المتوسط، ووصلت السفن الأوغاريتية إلى "مالطا" وخليج "نابولي" ومصب نهر "التيبر" وكذلك إلى البحر "الأسود" وبحر "مرمرة" و"البوسفور"، هذا الازدهار الذي ولّد الحسد لدى الشعوب الغازية، ما لبث أن تقوّض فجأةً عندما أصبحت أوغاريت أطلالاً، وزالت عن الوجود نهائياً حوالي عام 1180 قبل الميلاد، لكن "أوغاريت" لم تمت».

في رحلتي درتُ حول العالم (مرّةً ونصف المرّة)، وقطعت كلّ خطوط الطول، لقد اختلفت حياتي في الملاحة بشكل جذري، نظام وقوانين وقواعد لا يشهدها نظام أي عمل في حياة البر، إنها حياة البحارة، شغف مغلّف بالمرّ والشقاء

عشق لا ينتهي

لقد ورث السوريون عموماً وأبناء الساحل السوري بشكل خاص عشق البحر من أجدادهم الفينيقيين، وأصبح لشريحة واسعة منهم ملاذاً فقصدوه لغايات تنوعت بين الشغف وطلب الرزق، ولكل من هذه الغايات حكاياتها مع بحارين جمعهم الأمل والألم.

العمل في المرافئ مصدر دخل

القبطان السوري المتقاعد "غالب الميلع" من مواليد عام 1953، يعدُّ من الدمشقيين القلائل الذين دخلوا عالم الملاحة البحرية، فقد كان في العام 1973 واحداً من أصل خمسة عشر متقدماً من جنسيات مختلفة، إلى المعهد العالي للعلوم البحرية في "ألمانيا"، تم حينها قبول ثلاثة فقط من المتقدمين جميعهم من السوريين وقد كان "الميلع" واحداً منهم، حيث تخرج في العام 1978 وبدأ رحلة عمله على متن السفن الألمانية.

يرى "الميلع" أنّ حياة البحر شاقةٌ جداً، وفي حديثه لمدوّنة وطن يقول: «سابقاً كنّا نضطر للمكوث في الموانئ لأيام عدّة أثناء تفريغ حمولة البواخر، لم تكن وسائل التواصل متاحة كما الحال الآن، فالاطمئنان على أحوال العائلة لم يكن بالأمر السهل، فقد كنا نتواصل مع الموانئ القريبة وعن طريقها يتم الاتصال بعائلاتنا وربطنا معهم، أما اليوم فالإنترنت ووسائل التواصل متاحة بشكل دائم».

مخاطر كبيرة

مخاطر لا تنسى

الحنين إلى البحر

المكوث لأيام عدة في موانئ المدن أتاح أمام القبطان الدمشقي المجال واسعاً للتعرف على ثقافات جديدة وعادات وتقاليد الشعوب، لم يكن ليتعرف عليها لولا عمله في هذا المجال، ومن أكثر الأماكن التي تركت في نفسه أثراً كبيراً بجمال طبيعتها، واعتدال مناخها، جزيرة صغيرة تتبع لـ"البرتغال" وتسمى "ماديرا" أو جزيرة الورود.

لكن حياة البحر مملوءة بالمخاطر -على حد قوله- ولا بدّ أن للقبطان "الميلع" ذكريات منها، ومن إحداها تلك التي جرت تفاصيلها في إحدى الموانئ القريبة من "استوكهولم" حيث كان القبطان متجهاً إلى "اليونان"، يقود باخرةً محملةً بالأخشاب، وعند بحر "المانش" هبّت عاصفة أُجبرته على تغيير مسار الباخرة، كان مضطراً -كما يقول- "لمعاكسة وجهتي، لقد كانت الرياح عاتية، والأمواج تتقاذف الباخرة، وبقينا على حالنا ثلاثة أيام، لم أنم للحظة واحدة، أفكر بسلامة الطاقم والبضاعة التي أنقلها، وأفكر بأطفالي وهذا الجانب المؤلم في الحكاية، لم أكن لأطلب في صلواتي سوى شيئاً واحداً، وهو رؤيتهم ولو لمرة واحدة، نعم هذا جانب من حياة البحارين الشاقة».

قصص وحكايا

ويروي الشاب "أمجد بياسي" من أبناء مدينة بانياس وهو كبير ضباط السفينة التي يعمل على متنها، شغفَه بالبحر، فقد درس لمدة عامين في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا التابعة لجامعة الدول العربية في "اللاذقية"، وبعد الانتهاء من دراسته الأساسية في الأكاديمية تدرب لمدة سنة، حيث يسمى المتدرب في هذه المرحلة "كاديت"، ثم بدأ رحلةً استمرّت لمدة 16 شهراً متواصلة يصفها بقوله: «في رحلتي درتُ حول العالم (مرّةً ونصف المرّة)، وقطعت كلّ خطوط الطول، لقد اختلفت حياتي في الملاحة بشكل جذري، نظام وقوانين وقواعد لا يشهدها نظام أي عمل في حياة البر، إنها حياة البحارة، شغف مغلّف بالمرّ والشقاء».

يوميات بحار

لكنّ الشغف ليس الدافع الوحيد لخوض هذه التجربة، فالبحار الشاب "مجدي مشرقي" يرى أن المردود المادي للبحار إذا ما تمت مقارنته بمستوى الدخل الحالي لمختلف حاملي الشهادات في أي مهنة، يدفع الشباب للتفكير في العمل البحري، بالإضافة إلى أسباب أخرى خاصة بكل شخص، ويصف "مشرقي" طبيعة عمله وحياته المحاطة بالحديد والماء، وأحوال البحر المتقلبة، فيرى أنها مهنة بشقائها تكسبه بشكل مستمر الكثير من الخبرات والمعرفة، خاصةً أنّ مجال البحر واسعٌ، إن كان من خلال العمل المهني على سطح الباخرة، أو من داخل غرفة القيادة، «تواجهنا الكثير من الصعوبات، فالعمل شاق وساعات النوم غير منتظمة بالإضافة إلى عوامل الجو التي تفرض علينا مزاجاً مختلفاً، أيضاً نظام الورديات عند عملنا داخل الموانئ يستمر طوال الليل على سلم الباخرة على اختلاف ظروف الطقس"، مضيفاً: "نحن مجبرون على العمل، ناهيك عن التعب النفسي خاصة في ظل ما نشهده بسبب أزمة كورونا، فقد قامت معظم الدول بمنع البحارة من النزول إلى مدنها، إلى جانب ذلك الغياب الذي يستمر لأشهر بعيداً عن الأهل والأصدقاء".

ويلفت البحار الشاب إلى أنه ورغم ظروف العمل المتعبة فإنها لا تخلو من بعض المغامرات والذكريات الجميلة، منها مثلاً مرور الباخرة التي يعمل على متنها ببحر "الأزوف"، عندما تجمّد البحر بشكل مفاجئ وسط أجواء شديدة البرودة، وعلى الرغم من خطورة الموقف إلا أنه يصف رحلته تلك بالجميلة، وبالإضافة إلى بحر الأزوف" زار "مشرقي" عدة مدن في كل من "رومانيا" و"تركيا" و"وروسيا" و"أوكرانيا" و"لبنان"، أما المناسبات فهي تمضي كما أي يوم آخر بالنسبة للبحار، تحكمها ظروف العمل المتواصل، ولا يَذكُر أنه احتفل بمناسبة ما إلا في حالاتٍ نادرة جداً.

حكايا الصيادين

من سكان البحر أيضاً الصيادون، فمع كل فجر يتوجه "شاكر عثمان" إلى مركبه الصغير طالباً رزقه من البحر شاكراً إياه على ما يقدمه له، فمنذ كان في الـ13 من عمره وجد نفسه مسؤولاً عن أمه وجدته وإخوته، فاضطر للتوجه إلى البحر، لكن أنى لطفل مثله أن يلاقي الترحيب المنتظر على حد تعبيره، ويضيف: «بعد عناء شديد تلقيت عرضاً كان بالنسبة لي مغرياً، حيث طلب مني أحد الصيادين مساعدته على قاربه مقابل أجر زهيد، وهكذا بدأت العمل بحمايته، إلى أن امتلكت بعد سنوات أدواتي الخاصة ومركباً صغيراً، والآن بعد ثلاثة وعشرين عاماً من العمل ما تزال ساعة حياتي اليومية يضبطها البحر بكل تقلباته، أقضي ساعات يومي بمعظمها في مياهه صابراً على طلب رزقي شاكراً إياه على كل ما قدمه لي من دروس عنوانها فضيلة الصبر».

وما يزال البحارة السوريون يرسمون مساراتهم الخاصة التي تكمل صورة البحار السوري التي أسسها أجدادهم الفينيقيون.