دفعت الحاجة سكان القرى البعيدة والمرتفعة في محافظة "طرطوس" إلى إيجاد حلول لمشكلات فرضتها طبيعة التضاريس والمناخ، من أبرزها إيجاد حل لسد العجز المائي، كبناء خزانات لتجميع مياه الأمطار في موسم تساقطها، فيما يسمى بحصاد الأمطار، والاستفادة منها في مواسم الشّح، وهي عادةٌ ترجع إلى آلاف من السنين مضت، فلا تزال العديد من القرى تستفيد حتى الآن من قنوات المياه الرومانية في تجميع مياه الأمطار لاستخدامها في مواسم الصيف الجافة.

حلول بديلة

اعتمدت بعض الأسر على بناء خزانات لتجميع المياه خاصة بكل منزل، وقد تمتلك العائلة الواحدة أكثر من خزان تستفيد منه في أغراض متنوعة، كاستخدامه للشرب وبعض الأعمال المنزلية وسقاية الأراضي، حسبما بيّن المزارع "حسان عطية" لمدوّنة وطن بالقول: «في ظل ما نعانيه من شحٍّ في موارد المياه، نلجأ لحلول بديلة منها بناء خزانات تجميع مياه الأمطار، وهي عادة قديمة توارثناها عن أجدادنا، فبعد أن يبدأ موسم الأمطار، نقوم على الفور بإعداد أسطح منازلنا من خلال تنظيفها بشكل جيد، وقد جرت العادة أن يبدأ التجميع عند (المطرة الثالثة)، وبوساطة الأنابيب البلاستيكية يتم توجيه الأمطار المتجمعة على الأسطح باتجاه الخزانات، والتي تُنظف بدورها بعناية شديدة مع بداية كل موسم مطري، وهكذا يتم ملؤها بالكامل».

غالباً في مواسم الأمطار نقوم باستجرار المياه من الينابيع الموسمية في فترة فيضانها شتاءً، حيث نجمع الفائض منها لاستخدامه وقت الحاجة صيفاً، وهكذا لا تُهدر مياه الينابيع دون الاستفادة منها

وفيما يخصّ حجم الخزان، يشير المزارع إلى أنه رهن بالقدرة المادية لكل أسرة، لكن بشكل عام يقارب حجمه حجم غرفتين، وكثيراً ما يتمّ بناؤه على شكل طابق تحت المنزل، أو على شكل غرفة إلى جانبه، أو ضمن الأراضي الزراعية، وبالإضافة إلى تجميع المياه عن طريق الأسطح، يقول "عطية": «غالباً في مواسم الأمطار نقوم باستجرار المياه من الينابيع الموسمية في فترة فيضانها شتاءً، حيث نجمع الفائض منها لاستخدامه وقت الحاجة صيفاً، وهكذا لا تُهدر مياه الينابيع دون الاستفادة منها».

خزان لسقاية محصول التبغ

أساليب متنوعة

إحدى الرامات

وإلى جانب تغطيتها لنسبةٍ كبيرةٍ من احتياجات المزارعين من مياه الري، خاصةً لري محصول كالتبغ، والذي يحتاج لكميات كبيرة من المياه، تساهم عملية حصاد الأمطار في تعزيز مستويات المياه الجوفية، والتي ترتبط غزارتها بكمية الهطولات المطرية، فمن خلال تجميع الفائض منها سواء في ما يسمى (رامات) أو في سدّات صغيرة، تكون الفرصة متاحة للمياه لتتسرّب وتغذي المياه في الطبقات الجوفية، ما يساهم لاحقاً في زيادة غزارة ينابيع المنطقة وسد العجز الحاصل في تأمين مياه الشرب صيفاً، خاصةً في القرى المرتفعة والمعروفة بالجرد.

وللتجميع عدة طرق قد تكون غايةً في البساطة كبناء خزانات تحت المنازل أو جانبها وفي الأراضي الزراعية من مواد بناء بسيطة، وقد تكون من خلال بناء العديد من السدّات الصغيرة على مجاري المياه السطحية كبعض الأنهار، وقد تكون طرق التخزين أكثر تعقيداً كما هو الحال في بعض المشاريع الحكومية الضخمة، ويمكن أن تكون أنظمة تخزين واستجرار من عصور قديمة لا تزال مستخدمة حتى يومنا هذا، وهذا نجده كثيراً في قرى المحافظة ومنها بعض ينابيع قرية "نعنو" في ريف "القدموس"، وقرية "الكريم" في ريف "حمام واصل"، أيضاً في عين "الذهب" في جبل "زغرين".

سدة "السميحيقة"

خصوصية

ولمنطقة "القدموس" خصوصيتها من حيث طبيعة تضاريسها ومناخها، ما فرض نمطاً من التكيف مع ظروف البيئة وعواملها المتغيرة لتأمين المياه، فشتاء المنطقة القصير غزير الأمطار، وصيفها الطويل جاف، وتضاريسها المنحدرة وطبيعة صخورها النفوذة للمياه، كلها عوامل أدّت إلى انعدام الجريانات السطحية الدائمة فيها، كما يرى مدرس الجغرافية وابن المنطقة "سامي حسن"، مشيراً إلى أنه كان لا بدّ للأهالي من التدخل للحصول على المياه بطرق غير تقليدية كحصاد الأمطار، وقد راكم الإنسان خبراته المكتسبة منذ آلاف السنين، علماً أنه في الفترات الأخيرة، استطاع الكثير من الأهالي المواءمة بين حصاد المياه من جهة، وأساليب الري الحديثة الموفرة للمياه من جهة أخرى، فكثيراً ما نرى حالياً شبكات ري بالتنقيط والرش المعتمدة على خزانات تجميع مياه الأمطار، الأمر الذي أسهم في استخدام أكثر فاعلية للموارد المائية المتاحة.

تحسين الواقع المائي

ويتراوح معدل الهاطل المطري سنوياً في "القدموس" بين 900 إلى 1300 ميليمتر، وأحياناً تتجاوز ذلك بقليل، لكن هذه النسبة لا تشكل المردود المطلوب، وخاصةً أنها تذهب إلى الأودية ثم إلى البحر، وقد دفعت الحاجة الأهالي في تلك الجرود لبناء خزانات ضمن المنازل أو جوارها، وما تزال هذه الثقافة قائمة حتى الآن بحسب "هيثم سليمان" رئيس الرابطة الفلاحية في منطقة "القدموس" الذي يقول: «مع زيادة الاعتماد على الزراعة، كان التوجه نحو تخزين المياه بكل السبل، ومؤخراً كان لمديرية الموارد المائية دورٌ في هذا الاتجاه، انعكس بإجراءات ودراسات بعضها نجح وبعضها تعثّر، والمطلوب في المرحلة الحالية الاستمرار والتركيز على استثمار كل الهطولات المطرية، من خلال مجموعة من أساليب الحصاد التي من شأنها تحسين الواقع المائي وزيادة الإنتاجية الزراعية، كتحسين الينابيع وتجميع مياهها واستثمارها، وفتح الرامات حسب الإمكانيات المتوافرة، وإنشاء خزانات ترابية تغطى بشرائح البلاستيك وهذه تشكل مصدراً مهماً للري، أيضاً إنشاء خزانات بيتونية وسدّات وسدود، بالإضافة إلى جر مياه الأنهار إلى المرتفعات وسقاية المزروعات بالإسالة، وفتح الآبار الارتوازية في الأماكن التي أثبتت الدراسات وجود المياه المناسبة للاستثمار فيها».