تنفرد كل محافظة من المحافظات السورية بخصوصية أكلاتها وموائدها التي تميزها عن الأكلات في المحافظات الأخرى، لدرجة باتت فيها العديد من هذه الأكلات بمنزلة هوية تراثية لهذه المدينة أو تلك، ويمكن القول إن المطبخ الساحلي حظي بنصيب وافر من الشهرة والتميز من حيث تنوع الأطباق وكثرتها، ومناسبات كل منها، وأيضاً بطرق طهوها، وبساطة محتوياتها التي تناسب الجميع.

عادات وتقاليد

ما تزال "سكينة محمد" السيدة السبعينية تتمسك بعادات وتقاليد متوارثة عن أجدادها في حفظ المؤن وإحياء المناسبات التراثية، من خلال إعداد أطباق خاصة حسب قولها: «بعد الانتهاء من موسم التبغ، لا بدّ من احتفالية خاصة، فهو عمل شاق جداً يتطلب الكثير من الجهد والوقت، لذلك أقدّم مكافأة قيّمةً في هذه المناسبة، وهي كميةٌ كبيرةٌ من الفطائر المخبوزة على التنور والسيالات بالسمن البلدي، وتأتي هذه العادة المتوارثة التي تدعى "الخلاصة" كنوع من الشكر على الجهود المبذولة، ليس فقط في موسم التبغ إنما في مواسم أخرى كانتهاء الحصاد وقطاف الزيتون».

بعد الانتهاء من موسم التبغ، لا بدّ من احتفالية خاصة، فهو عمل شاق جداً يتطلب الكثير من الجهد والوقت، لذلك أقدّم مكافأة قيّمةً في هذه المناسبة، وهي كميةٌ كبيرةٌ من الفطائر المخبوزة على التنور والسيالات بالسمن البلدي، وتأتي هذه العادة المتوارثة التي تدعى "الخلاصة" كنوع من الشكر على الجهود المبذولة، ليس فقط في موسم التبغ إنما في مواسم أخرى كانتهاء الحصاد وقطاف الزيتون

وتضيف السيدة: «السيالات ليست فقط من الأكلات الشعبية الساحلية، إنما تشتهر بصناعتها العديد من المحافظات، ولكل منها طريقتها الخاصة وإضافاتها التي تميزها، لكن في الساحل لها طريقة خاصة في إعدادها، كما أنها لا تعدّ من أصناف الحلويات، بل هي عبارة عن عجينة سائلة تحضر من الدقيق والماء والملح دون أي منكهات، وتخبز على الصاج، مع إضافة الكثير من السمن البلدي أو الزبدة أو الزيت، لكن هناك من يأكلونها على شكل لفافة محشوة بالسكر أو الحلاوة الطحينية».

برغل بحمص أكلة شعبية

إنتاج محلي

في الماضي كانت جميع المأكولات تعتمد على ما تقدمه البيئة المحلية، ولأن زراعة القمح احتلت المرتبة الأولى، كان من الطبيعي أن تعتمد معظم الأطباق الشعبية المشهورة في الساحل على القمح ومشتقاته، ومن أبرزها "القمحية" وهي من الأكلات الشتوية، و"المتبلة" من أكلات الصيف، و"المخلوطة" التي تعد بمنزلة حساء يعدّ بشكل شبه يومي وهو مكون من القمح والعدس والحمص، أما البرغل فقد كان وما يزال يحجز لنفسه المكانة الأولى على المائدة، ومنه تعدّ أطباق متنوعة كالبرغل باللوف وبرغل بالسليق أو (المرشوشة)، والبرغل بالسلق، والمجدرة، والبرغل بحمص، أيضاً البرغل بالشوافة، ولهذا الطبق خصوصيته لدى أهالي الساحل القدماء، فقد كان يُطبخ في حفلات الأعراس كشكل من أشكال الترحيب بأهل العروس.

مؤونة الشتاء

تقول "جمانة حرفوش" المهتمة بتراث محافظة "طرطوس" في حديثها لمدوّنة وطن: «اعتمد أهلنا وأجدادنا فيما مضى على نبات الشوافة أو القرع بنوعيه الأصفر -ومنه صنعوا المربيات- والأبيض الذي كان يجفف بكميات كبيرة جداً، تكفي الأسرة لعام كامل، ومنه كانت ربات المنازل يعددن أنواعاً متعددةً من الأطباق، أبرزها الشوافة بالبرغل، وبشكل عام كانت مادة البرغل في تلك الفترات الطبق الرئيسي على وجبة الفطور مضافاً إليه زيت الزيتون، كذلك دخل البرغل في صناعة المؤن أبرزها الكشك، الذي يمر تحضيره بعدّة مراحل، فقديماً كان يوضع اللبن الرائب في جرة فخارية يُحكم إغلاقها لعشرين يوماً، بعدئذ يُنقع البرغل في اللبن المخمّر ليلةً كاملة، حتى يمتص اللبن بشكل جيد، ثم يفرك المزيج باليد لبضعة دقائق، ويقطع قطعاً صغيرةً دائريةً، ويجفف في الظل لعدّة أيام، ليخزن بعدها بشكل جيد بعيداً عن الرطوبة، ويقدم في فصل الشتاء كواحد من أكثر الأطباق شعبيةً محافظاً على مكانته على موائدنا حتى يومنا هذا».

حفظ الطعام

وتشير "حرفوش" إلى أنه في زمن لم يكن للثلاجات فيه وجود داخل المنازل الريفية، كان لا بدّ من إيجاد حلول، فلحفظ اللحوم لمدة طويلة قامت النساء آنذاك بطهوها وتحميصها بشكل جيد مع قطع الدهن والملح، وهذا ما يسمى (قاورما) - وهي أساس المؤونة الشتوية - وبعد أن يبرد الناتج تماماً كان يعبأ بأوان فخارية ولاحقاً زجاجية مع إحكام إغلاقها، وعند الحاجة تضاف منه الكمية اللازمة لكل طبق، ومن العادات التراثية أيضاً، حفظ ثمار الليمون من خلال وضع طبقات منها وأخرى من التراب الأبيض، في أطباق مصنعة من أعواد الريحان، وتُرش الطبقات بالقليل من الماء، ويستخدم الليمون حسب الحاجة، وبهذه الطريقة تحفظ الثمار لمدة طويلة جداً.

أكلات ومناسبات

ما يزال أهالي ريف الساحل خاصةً في ريفي "بانياس" و"القدموس"، يحيون بعض المناسبات التراثية من خلال إقامة الاحتفالات الشعبية التي لا تخلو من بعض الأكلات التقليدية، من أبرزها" البشارة التي ارتبطت بطبق "كبيبات السلق" الذي تنفرد به محافظة "طرطوس"، وقد حافظ على مكانته على موائد الأهالي حتى في غير أوقات المناسبات، أيضاً في عيد رأس السنة الميلادية حسب التقويم الشرقي، يحرص معظم الأهالي في معظم قرى ريف "القدموس" و"حمام واصل" و"بانياس" على إحياء المناسبة من خلال إعداد فطائر تسمى (فطير الميلادي)، وهي عجينة تضاف إليها كميات وفيرة من الزيت أو السمن البلدي مع السمسم وحبة البركة، ولها طريقة خاصة في التشكيل، لتصبح بعد خبزها على التنور بهيئة رقائق فوق بعضها البعض، وكذلك "البربارة" التي تتميز بطقوسها الاجتماعية والعائلية، لكن يبقى البرغل بالحمّص الطبق التقليدي الأكثر شعبيةً على امتداد الساحل وجباله، فقد اعتاد الناس في معظم المناسبات والأعياد الدينية على طهوه مع لحوم الذبائح، وتبادله بين جميع أهالي القرية فيما يسمى (السكبة)، خاصةً في كل من عيدَي الأضحى والمولد النبوي الشريف.

حلول بديلة

في وقتنا الراهن فرضت الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية خارج أوقات موسمها، والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي لساعات طويلة، على كثير من الأسر العودة إلى التقاليد في حفظ الأطعمة والمؤن، كالعودة لتجفيف الحبوب بأنواعها والخضروات كالفاصولياء والباذنجان والبامياء والشواف، كما أن انتشار الحياة المدنية وكثرة انشغال الناس، وقلة إتقان الفئات العمرية الشابة تحضير أطباقهم الشعبية المحببة وبعض المؤن، دفع البعض في الأرياف البسيطة لأن يستمدوا من التراث أفكاراً لمشروعات متناهية الصغر، كمشروع بيت الضيعة الذي أسسته خمس سيدات من ريف "الشيخ بدر" يقدمن من خلاله مختلف أنواع الأكلات الشعبية المصنعة من مشتقات الحليب، ورب البندورة والزعتر البلدي الطازج والكشك والفطائر والسيالات والتين المجفف الذي يسمى (هبول) وهو من الأصناف الشعبية التقليدية المفضلة لدى أهالي الريف والمدينة، وغيرها من الأصناف التقليدية، وجميعها تباع بأسعار نالت رضى المستهلك، وحققت مردوداً مادياً للسيدات العاملات فيه، خفف جانباً من أعباء الحياة الملقاة على عاتقهن كربات منازل.