لمدينة "حمص" تاريخ طويل مع المياه فقد تعددت الطرق التي جرى فيها تزويد المدينة بالمياه على امتداد القرون الماضية، ولعلّ أبرز الطرق التي لا تزال آثارها حاضرة حتى الآن هي تلك المسماة "الساقية المجاهدية" التي أنشئت في القرن الثاني عشر الميلادي أيام حكم الملك "المجاهد شيركوه بن محمد" بهدف تغذية المدينة بالمياه الصالحة للشرب وإرواء بساتينها، لذا، جاءت تسميتها "الساقية المجاهدية" نسبة إليه.

تاريخ الساقية

تاريخياً تغذَّت مدينة "حمص" بمياه الشفا لأولِّ مرة، عبر شبكة قساطل فخّارية تمَّ تشييدها زمن الحكم الروماني، بدءاً من المنطقة الواقعة جنوب غرب المدينة المسماة "جوسية" والتي تبعد نحو 40 كم عنها، وحسبما يشير "عبد المؤمن الحجار" عضو فرع "الجمعية التاريخية السورية" و"جمعية العاديات"، والمهتم بتوثيق التراث الحمصي خلال حديثه مع مدوّنة وطن "eSyria"، فإن المصادر التاريخية التي تناولت تاريخ المدينة وآثارها، تدلُّ على أن الزلازل التي ضربتها بشكلٍ متكررٍ أدت إلى تدمير تلك الشبكة بشكلٍ كبير، لذا، تمَّ شقُّ الساقية الجديدة (المجاهدية) من ما كان يسمى "بحيرة حمص" في منطقة "قطينة" حيث مسماها الحالي نسبةً إليها، عابرة قرى "تل الشور" حيث تشاهد بقايا آثارها هنالك في موقع يدعى "الطبنة"، مروراً بقرية "جوبر" ومنها إلى منطقة "بابا عمرو" على مشارف المدينة القديمة.

تنعطف الساقية بعد ذلك صوب جهة الشمال مروراً بمبنى "السرايا القديمة" ومنه إلى شارع "الخمَّارة" – كما كانت تسميته آنذاك – لتصل إلى منطقة تدعى "القرابيص" وهي عبارة عن أراضٍ زراعية حيث تتفرَّع منها عدة أقنية مهمتها إرواء البساتين الواقعة فيها، ومنها تتابع الساقية مجراها إلى موقع "المسلخ القديم" وصولاً إلى "طاحونة الأسعدية"، و"طاحونة الدنك" الواقعتين شمال المدينة، ليكون مصبها النهائي في مجرى نهر "العاصي" المتجه شمالاً نحو مدينة "حماة"

خارطة طريق

يرسم الباحث خارطة لخط سير القناة في المدينة فهي تدخل إلى أحياء مدينة "حمص" من جهتها الغربية، ويبدأ مسيرها من منطقة البساتين، المسماة حالياً "الكاردينيا"، ومنها يتغير اتجاه سيرها صوب جهة الجنوب الشرقي مروراً ببساتين حي "الغوطة" الحالي، وصولاً إلى ما يسمى "مصلى باب هود"، وفي تلك النقطة يتغير مجرى الساقية نحو جهة الشمال الشرقي عند بداية شارع "عبد الحميد الدروبي" كما هي تسميته الحالية، وتحديداً عند موقع مبنى "الجمعية التاريخية السورية" الراهن، لتمرَّ بعدها في منطقة حيِّ "الأربعين" المجاور، وصولاً إلى موقع "التكية المولوية الكوجكية"، وقي تلك النقطة تمَّ بناء ناعورة بغية رفع المياه إليها، وإيصالها كذلك إلى "الجامع النوري الكبير" و"جامع الدالاتي" والأحياء الأخرى المجاورة داخل سور المدينة القديمة، ومن هنا جاءت التسمية الحالية لما تسمى "منطقة الناعورة"، حيث تمَّ تشييدها سنة 1922 من قبل الحرفي "عمر الدالاتي" لكن فيما بعد فُكِّكت سنة 1957 لتنقل لاحقاً إلى مدينة "جسر الشغور".

أبو حذيفة الجلبجي

يتابع "الحجار" حديثه بالقول: «تنعطف الساقية بعد ذلك صوب جهة الشمال مروراً بمبنى "السرايا القديمة" ومنه إلى شارع "الخمَّارة" – كما كانت تسميته آنذاك – لتصل إلى منطقة تدعى "القرابيص" وهي عبارة عن أراضٍ زراعية حيث تتفرَّع منها عدة أقنية مهمتها إرواء البساتين الواقعة فيها، ومنها تتابع الساقية مجراها إلى موقع "المسلخ القديم" وصولاً إلى "طاحونة الأسعدية"، و"طاحونة الدنك" الواقعتين شمال المدينة، ليكون مصبها النهائي في مجرى نهر "العاصي" المتجه شمالاً نحو مدينة "حماة"».

ذكريات (السقايين)

يستعرض الباحث "الحجار" بعضاً من ذكريات رواها له والده عن تلك الفترة وعنها يقول: «كانت المياه تصل إلى البيوت عن طريق رجل يسمَّى "السقا" مهمته جلبها على ظهر الفرس الخاصة به، بواسطة راويتين مصنوعتين من الجلد تتم تعبئتهما من مياه الساقية الحلوة، حيث كانت مياه معظم الآبار الموجودة في البيوت مالحة، كانت أعداد (السقايين) كبيرة لذا كانوا يجتمعون في مقهى خاص بهم، كان موقعه قرب مبنى السرايا القديمة، وأصبحت تسميته "مقهى السقايين" نسبة إليهم، هذه الأحداث كانت قائمة في العقود الأولى من القرن العشرين الماضي، كما روى لي والدي الراحل».

مكان مرور الساقية في شارع حافظ ابراهيم

بدوره يستذكر الدكتور "عبد الرحمن البيطار" رئيس فرع "الجمعية التاريخية السورية" في مدينة "حمص" بعض الأحداث التي عاشها الأهالي مع "الساقية المجاهدية" بحديثه لمدوّنة وطن "eSyria" قائلاً: «اسمها الشائع حتى الآن هو "ساقية الري" ومنها كانت تتفرع عدة (سواقي) لها مسميات عدّة، منها ساقية "الغمايا" الواقعة بالمنطقة المسماة في وقتنا الراهن "الغوطة".. أذكر أنَّها في خمسينيات القرن الماضي كانت مقصداً لسكان المدينة بغية التنزه في أيام الجمعة ومناسبات الأعياد، بالأخص في فصل الربيع والصيف، حيث كانت معظم عائلات المدينة تخرج إلى ذلك الموقع، يصطحبون معهم أدوات الطبخ وأولها "بابور الكاز" الذي كان شائع الاستخدام في ذلك الزمن وقبله، والوجبة الرئيسية التي تشترك الغالبية في إعدادها هي "الباذجان المقلي"، أمَّا بالنسبة لنا كأطفال في ذلك الزمن فقد كانت ألعابنا هي رمي الحجارة باتجاه "الضفادع" و"السلاطعين" التي كانت تمتلئ بها مياه الساقية آنذاك"، لكن مع التطور العمراني الذي جرى في تلك المنطقة لاحقاً مع بداية سبعينيات القرن العشرين الماضي، غابت كلُّ تلك المظاهر الاجتماعية الجميلة وتغيَّر شكل الساقية مراتٍ عديدة، لتختفي بشكلٍ كامل بعدها».

نذكر أخيراً بأنَّ هذه اللقاءات قد أجريت بتاريخ 21 آب 2021.

مجرى الساقية قديماً في محلة مصلى باب هود