زراعة التبغ واحدة من الزراعات القديمة جداً في الساحل السوري التي تعود إلى مئات السنين، وتشكل حالياً محصولاً استراتيجياً رئيسياً يعتمد عليه أهالي القرى كمصدر من مصادر دخل العائلات العاملة به، وذلك بالرغم من الصعوبات الكثيرة التي تواجههم، إلى جانب ذلك تشهد مراحل إنتاج المحصول الكثير من العادات والطقوس من غير الممكن مشاهدتها في زراعات أخرى.

تاريخياً

تذكر المعلومات التاريخية أن سلطات الاحتلال العثماني كانت سمحت بزراعة التبغ من صنف "أبو ريحة" في محافظة "اللاذقية" - كانت تضمّ "طرطوس" آنذاك - على أساس قوانين حصر خاصة لهذا الصنف، والذي عُرف عالمياً باسم التبغ اللاذقاني، إلى أن توقفت زراعته في العام 1656 على يد السلطات المختصة بسبب إحراق أشجار الصنوبر من قبل المزارعين.

بعد أن تتم إزالة الحصى والأحجار من تربة المساكب، تسقى لعدّة أيام لإنبات الأعشاب فيها، ثم تتم إزالتها والتخلص منها، لتأتي مرحلة رش البذار مع مراعاة ترك مسافة كافية فيما بينها، وبتقنية معينة تُغطى المساكب بالنايلون المدعّم بالأغصان المرنة لحمايتها من الأمطار الغزيرة وعوامل الطقس في مناطقنا الجبلية، وتبقى مغطاةً لمدة شهر تقريباً

أيضاً خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وفي أحد مواسم قطاف التبغ، رفضت مؤسسة "الريجة" التابعة للفرنسيين آنذاك استلام محصول التبغ، وهنا لم يكن أمام المزارعين سوى إعادتها وحفظها في بيوتهم الترابية، حيث كانوا يستخدمون أخشاب السنديان والبطم والغار والصنوبر في تدفئتهم، ولم يكن أحد منهم يعلم أنّ الدخان المنبعث من أخشاب التدفئة، سيجعل منه تبغاً معتقاً بمواصفات عالية الجودة، ولم يكتشفوا ذلك إلا بعد تسليم محصول السنة التالية، مضافاً إليه تبغ العام الفائت، وبعد فحص التبغ القديم من قِبل الخبراء، تبيّن أنه تبغ يحمل مواصفات عالمية، وقد أُطلق عليه حينها اسم مدينة إنتاجه تبغ "اللاذقية"، وفي العام 1953 وضعت الحكومة السورية برنامجاً للتجارب الزراعية على أصناف جديدة من التبغ، واستقدمت الخبراء الأجانب للإشراف على التجارب ودراسة البيئة السورية، وبعد أن ثبتت ملائمة البيئة لإنتاج التبغ الشرقي كـ"البريليت" و"الأوتيليا" اليوغسلافية، توقفت عن استيرادها وبدأت بالتوسع التدريجي في إنتاجها، أما حالياً فتزرع في الساحل السوري أنواع متعددة من التبغ أشهرها "شك البنت" وهو نوع محلي يتميز بصغر أوراقه، و"فرجينيا" الأمريكي الذي شهدت زراعته نجاحاً على المستوى المحلي وأنواع أخرى.

تجفيف أوراق التبغ

استثمار عائلي

تشتهر معظم القرى في الساحل السوري بهذه الزراعة التي تشكل محصولاً استراتيجياً هاماً، ومهنةً توارثها الأهالي عبر مئات السنين، وعلى الرغم من دخول وسائل التطور التقني على العديد من الأعمال الزراعية، إلا أنّ هذه الزراعة ما تزال تعتمد على العمل اليدوي الجماعي في معظم مراحلها، التي تمتدّ لأشهر طويلة خلال العام، وتمرّ بمراحل متعددة تبدأ بتجهيز المشاتل، أو كما تسمى محليّاً (المساكب)، خلال شهري كانون الثاني وشباط، وعن هذه المرحلة يتحدّث المزارع "محمد اسماعيل" الذي التقته مدونة وطن: «بعد أن تتم إزالة الحصى والأحجار من تربة المساكب، تسقى لعدّة أيام لإنبات الأعشاب فيها، ثم تتم إزالتها والتخلص منها، لتأتي مرحلة رش البذار مع مراعاة ترك مسافة كافية فيما بينها، وبتقنية معينة تُغطى المساكب بالنايلون المدعّم بالأغصان المرنة لحمايتها من الأمطار الغزيرة وعوامل الطقس في مناطقنا الجبلية، وتبقى مغطاةً لمدة شهر تقريباً».

تقسيم العمل

يراقب المزارعون نمو الشتلات، وبعد أن تصل للحجم المناسب يعملون على اقتلاعها من المسكب بشكل متفرد بدءاً من الشتلات الكبيرة، أما الصغيرة فتترك لفترة من الزمن حتى تنمو أكثر، بعدئذ تُجمع على شكل حزم ضمن قطع من الخيش مع المحافظة على رطوبتها تمهيداً لزراعتها التي تعتمد على اجتماع عدّة أفراد من العائلة، وفي أحيان كثيرة تجتمع العائلة بأكملها، حسبما قال المزارع "اسماعيل" ويضيف: «من الضروري جداً تقسيم العمل فيما بيننا، فأحدنا يرمي الشتلة لآخر ليقوم بغرسها بوساطة آلة خاصة تسمى (الشاتول)، وهي عبارة عن مقبض خشبي له ذراع معدنية تشقّ الأرض بشكل مثلث توضع الشتلة بداخله مع كمية قليلة من التراب فوقها، ليقوم شخص ثالث بسقايتها على الفور وهذه المرحلة تسمى (التبريد)، وبعد الانتهاء من عملية الزراعة التي تستغرق وقتاً طويلاً ومجهداً، تسقى الشتلات لمرتين أو أكثر يومياً مع مراعاة مراقبتها الدائمة والاستمرار برشها بالمبيدات الحشرية والأسمدة اللازمة حتى يحين موعد قطافها».

القطاف والشك

وتعد ساعات الصباح الباكر الموعد المثالي لقطاف التبغ، حيث الأوراق الندية سهلة القطاف والشك، أيضاً لهذه العملية أصولها بحسب المزارع "علي خليل": «نكسر الأوراق من الأسفل، وتُسطّر بشكل متعاكس في أكياس الخيش، ثم تأتي مرحلة الشك ونستخدم فيها أدوات خاصةً وهي المسلّة والخيط المخصص لشك التبوغ، ولا يزيد طوله على متر واحد، نبدأ بشك الأوراق الصغيرة لوحدها، ثم الأوراق الأكبر في خيوط منفصلة، وعمليات القطاف والشك قد تتجاوز مدتها الشهر، ثم تُنقل الخيوط لتعلق على (سقالات) في أماكن لا تتعرض كثيراً لأشعة الشمس، حتى يتم يباسها في شهر تشرين الأول، ننزلها عن المناشر وتوضع في صناديق خشبية خاصة ضمن أكياس الخيش، ثم نرسلها إلى مراكز استلام التبغ لتباع بالسعر الذي يتناسب مع حجم الورقة وجودتها، وعملية التسعير هذه تعتمد على تخمين المراسل الذي تكلفه المؤسسة العامة للتبغ القيام بهذه المهمة».

طقوس اجتماعية

تطغى على أجواء القطاف والشك الكثير من أجواء البهجة والألفة، من خلال اجتماع معظم أفراد العائلة، وفي الكثير من الأحيان يأتي الأقارب والجيران لتقديم المساعدة، وهذه من العادات التي امتازت بها قرى الساحل السوري في مواسم (شك الدخان)، فتغلب على هذا العمل الشاق روح الدعابة والمرح وتبادل الأحاديث، وعند الانتهاء من أعمال الموسم بشكل كامل تُحضّر الأطعمة التراثية كالبرغل بحمص والسيالات، وهذا التقليد الذي ما يزال متبعاً حتى الآن ويسمى (الخلاصة).

تحديات

وبالرغم من أنّ محصول التبغ يعد من أهم مصادر الدخل الزراعي في المنطقة ومشغل رئيس لآلاف الأسر، إلا أنّ زراعته تواجه الكثير من الصعوبات والتي أوجز "هيثم سليمان" رئيس الرابطة الفلاحية في منطقة "القدموس" أبرزها: «تواجه زراعة التبغ صعوبات الطبيعة والمناخ القاسي، وانقطاع الأمطار، ومن جانب آخر تساقط البَرد وما يسببه من كوارث، أيضاً غلاء مستلزمات الإنتاج من أدوية ومبيدات وأسمدة ونايلون وخيوط ومرشات، بالإضافة إلى أجور الفلاحة المرتفعة جداً، حيث تبلغ أجرة ساعة الحراثة 20 ألف ليرة، وأجرة العمالة 7000 ليرة في الساعة، كذلك غلاء الشتول وتكلفة تحضير المساكب، وعدم توافر مياه الري خاصةً في القرى الجبلية، وعدم توافر مستلزمات الإنتاج في التوقيت المناسب كالأسمدة والوقود، وعمليات التسعير غير العادلة في ظل ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج ».