عاد "خضر الحساني" لممارسة عمله في طلاء المنازل بواسطة مادة الجص الأبيض، وهي المهنة التي غابت عن محافظة دير الزور طيلة فترة سيطرة الإرهاب.

ومع إشراقة شمس كل صباح ينطلق "الحساني" وأفراد ورشته المؤلفة من 7 عمال إلى مواقع العمل الذي يتواصل طيلة النهار.

تعدُّ مهنة الطلاء بالجص أو كما يطلق عليها "الجِصاصة" مهنة قديمة وقد اشتهرت بها مدينة "دير الزور"، كما تعد مصدر دخل للعاملين بها، يقول "الحساني": "بدأت العمل بالمهنة في عمر الرابعة عشرة، وصلت إلى سن الخمسين وما أزال أعمل بها حتى الآن، ولم أنقطع عنها سوى خلال فترة سيطرة الإرهاب، فقد حُرمنا من عملنا لكون مواقع مادة الجص، أو ما يُعرف بـ "النوامير"، كانت ساحة مواجهة مع تنظيم "داعش" الإرهابي، الأمر الذي اضطرنا لنقل عملنا إلى محافظة "الرقة"، كنا نستخرج مادة الجص من هناك ونعمل على طلاء المنازل بها".

مهنة تتجدد

ويتابع" الحساني" حديثة:" المهنة كما أسلفت لا توجد سوى في محافظة "دير الزور"، وقريتي "حطلة" اشتهرت بها أكثر، إذ يوجد فيها العديد من الورش يغطي عملها كل المحافظة، وفيها شيوخ كار منهم من توفي ومنهم من كبر بالعمر ليُكمل ممارستها أولاده من بعده"، مشيراً إلى تحدٍ جديد بات يضاف إلى أعباء المهنة وهو ارتفاع أسعار المادة، إذ يصل سعر "الشنبل" وهو مُسمى وحدة القياس المستخدمة (6 تنكات جص) إلى 13 ألف ليرة، وتصل كلفة طلاء منزل بشكل كامل

إلى أكثر من 600 ألف ليرة.

"النوامير"

بدوره يشير معلم المهنة "حميد حديد الحسين" إلى ما طرأ على المهنة من تحسينات إذ لم تعد مادة الجص تُستخدم لوحدها في عملية طلاء المنازل، بل أضيف إليها الإسمنت الأسود أو الأبيض، وبعد عودة الحياة لـ"دير الزور" عادت مواقع استخراج الجص (الرخام الديري) والتي تُسمى محلياً (النوامير) للعمل من جديد بعد توقف لسنوات"، مبيناً أن هناك حالياً سبعة (نوامير) يتم منها الحصول على مادة الجص التي يرغب بها الأهالي في طلاء منازلهم، بعد أن كان عددها يتجاوز قُبيل الأحداث التي عاشتها المحافظة الـ20.

الباحث غسان الخفاجي

ويعبّر معلم المهنة عن سعادته بالعودة لمزاولة المهنة مجدداً فهي كما يقول: "مصدر رزقه ولا يتقن غيرها فالطلاء كما ريشة الفنان على اللوحة يحتاج إتقاناً، هي ليست عملية طلاء فقط بل هي فن له جماليته".

فرصة عمل

كثير من شباب محافظة "دير الزور" اعتادوا العمل بمهنة "الجِصاصة"، وخصوصاً طلاب الجامعات الذين وجدوا فيها فرصة للعمل صيفاً بغية تأمين مصروفهم، ويقول الشاب الجامعي "عماد العبد الله": "بدأت العمل بالمهنة منذ كنت في الخامسة عشرة، وما أزال أعمل بها حتى الآن ولكن في الصيف فقط.. العمل هنا ممتع رغم صعوبته، تسمع الأهازيج والأغاني، هناك من يغني" المولية" الفراتية والمواويل، ففي هكذا أجواء يمضي وقت العمل مُسرعاً".

الشاب "حسن الحساني" الذي تعلّم المهنة من والده يقول: "تعلم المهنة لم يكن بالأمر السهل، كثيراً ما كنت أتعرض لغضب والدي في سبيل تعليمي، لم أتابع دراستي فقد وصلت حتى

الصف التاسع للتعليم الأساسي والآن أنا بمرتبة معلم في هذه المهنة ويعتمد علي والدي في عمله وإدارة الورشة".

تسميات وأدوات

عن هذه المهنة وتفاصيلها يتحدث الباحث في التراث "غسان الخفاجي" لموقع " eSyria " بالقول: "مادة الجص تُستخرج من الصخور الكلسيّة (الرخام الديري) من مواقع تُسمى "نوامير" وهي توجد قريباً من منطقة المقابر في مدينة "دير الزور"، و"النامورة" عبارة عن مصنع خاص إن صح التعبير، يتم فيه تكسير الصخور ثم طحنها، تليها عملية الغربلة لتتحول إلى مادة الطلاء (الجص)، وبالنظر لبيئة المحافظة الحارة صيفاً وذات المناخ القارّي شتاءً، فإن الجص يُستخدم لطلاء المنازل من الداخل والخارج لدى أغلبية الأهالي، فهو يُشكّل بطانة عازلة للحرارة والبرودة عكس مادة الإسمنت".

ويضيف "الخفاجي": "لمهنة "الجصاصة" أدواتها ومسمياتها الخاصة، كما تسميات عمال ورشها وحتى مقاييس وزن المادة ،كل له إسمٌ خاص، في الغالب تتألف ورشة العمل من سبعة أشخاص وهم: المعلم وهو صاحب الورشة، "الخَلْفَة" وهم بمنزلة معلمية الكار وعددهم 2، وهناك معلم (الجبل) وهو من يقوم بمزج الجص بالماء، وآخر يُسمى بـ"المشاش" يُمسك خرقة من قماش أبيض يمسح بها الجدار بعد طلائه، هناك أيضاً "الخمر"، و"النويشة" وعددهم 2، وهؤلاء غالباً فتية أو شباب، أما الأدوات فتجد "المالج" ويستخدم للصق الجص على الجدار، ومن ثم مده بشكل رتيب بسماكة معينة وبشكل مستقيم، أما العدة الرئيسية والتي تُستخدم للأسقف والجدران المرتفعة فتُسمى "أسكلة" وهي عبارة عن أبواب وأعمدة من الخشب للصعود عليها وممارسة عملية الطلاء، فيما تُسمى وحدة قياس كمية الجص المطلوب "شنبل" وهي زنة 6 تنكات كبيرة.