تكاد لا تخلو قرى الساحل السوري من وجود شواهد تحكي قصص من عاشوا قبلنا، ومن أبرزها المنازل الريفية القديمة والبسيطة من حيث محتوياتها والمواد التي استخدمت في بنائها، والتي تختلف باختلاف طبيعة المنطقة وتضاريسها ومناخها وموقعها بالنسبة للساحل وضفاف الأنهار، أو الجبال والغابات وغيرها من العوامل.

بالحجارة والأخشاب

اعتمد بناء المنازل الريفية القديمة بشكل رئيسي على الحجارة والأخشاب، وأغصان الأشجار ونوع معين للتربة هو (التربة الغضاريّة)، حتى أنه في بعض القرى اعتمدوا في البناء على حجارة "الدبش"، نوع من الحجارة غير المشذّبة، وفي قرى أخرى بنوا منازلهم بالأحجار المطلية بالكلس والأسقف التي دعمت بالقناطر والعقود.

بيت جدي هو أحد البيوت التي امتلكها الشيخ "صالح العلي"، وقد شهد الكثير من الأحداث التاريخية، ومنه انطلقت شرارة المقاومة ضد الاحتلال العثماني، بعد أن قام ورفيق دربه جدي المجاهد "سليم حسن" الملقب بـ "سليم زينة" بالتصدي لعدوان مجموعة من الجنود الأتراك على القرية، أيضاً شهد عدداً من حركات المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي بقيادة الشيخ "صالح"، ولاحقاً قامت به العديد من جلسات القضاء المحلي المعتمدة على الأعراف، والكثير من المصالحات، وإحياء المناسبات المجتمعية المختلفة

"محمد سليم" سبعيني من إحدى قرى ريف "القدموس"، قضى طفولته وبعض سنوات شبابه في بيت ريفي ورثه والده عن جدّه، قال في لقائه مع مدوّنة وطن: «كان حال بيتنا البسيط كحال معظم بيوت القرية، يتألف من غرفة واحدة تقوم في منتصفها على عمود أو كما يسمى باللهجة المحلية "الساموك"، وكل جدار فيها يتألف من (حبّتين) أي جدارين متقابلين، يُملأ الفراغ بينهما بكميّة من الحجارة الصغيرة المسماة بـ (الجمش)، أما عتبة الغرفة فغالباً ما كانت تُبنى بالأحجار ذات الشكل الطولي، كما حال عتبة بيتنا، وعند البعض كانت العتبة تقوم على وضع بعض القطع الخشبية التي تبنى فوقها الحجارة، أما في منتصف البيت فقد وضعت قطعة كبيرة من الخشب المتين، تعلوها قطعٌ خشبيةٌ اتخذت شكلاً مثلثياً، مهمتها حمل السقف المصنوع من طينة أُعدت من تربة خاصة، وللسقف فتحات صغيرة، تساعد على خروج الدّخان والأبخرة الناتجة عن الطبخ، وتؤمن التهوية الجيدة».

درج حجري لبيت قديم

الوضع المادي

بقايا من منزل الشيخ "صالح" في قرية "كاف الجاع"

يختلف عدد الغرف التي يحتويها البيت الواحد باختلاف الوضع المادي لكل عائلة، فبعض البيوت الريفية احتوت على غرفتين أو ثلاث، تطل على الفناء الخارجي الذي عادةً ما كان يُزرع بأنواع من الأشجار والورود والنباتات المتنوعة والخضروات، وبعضها احتوت على حظيرة يعلوها (العرزال)، وأخرى احتوت على (المَتبَن) الذي يبنى من أعواد خشبية تسمى "الحيصل"، وسقفه يحتوي فتحةً مخصصةً لإدخال التبن تسمى "الروزْنة"، وهناك أيضاً غرفة (المونة)، وتتألف من عدد من (الكوارة) المخصصة لحفظ الحبوب، وبيت الحطب المخصص لحفظ ما يتم جمعه من الحطب الذي يستخدم في أشهر الشتاء القاسية كوسيلة للتدفئة، أو استخدامه في مواقد الطبخ، وللضيوف مكان خاص لاستقبالهم يدعى (العليّة)، هي مكان يعلو بقية أجزاء البيت، يرتبط مع الفناء بدرج حجري، تحتوي العليّة على عدّة خزائن في جدرانها تُوضّب بها الفُرش والأغطية الخاصة بالضيوف، وكانت معظم الأسر غير القادرة على بناء بيت مستقل لمن يتزوج من أبنائها، تلجأ لبناء ملحق صغير بجوار البيت الأساسي يسمى في بعض المناطق "الرويقة".

هذا بالنسبة لبيوت معظم أهالي القرى البسطاء، أما بيوت الإقطاعيين آنذاك، فكانت بمعظمها تتكون من طابقين تم بناؤهما من الحجارة بالكامل، وكثيراً ما كانت حجارة بيوت الإقطاعيين تُنقل من أماكن بعيدة، وبناؤها كان غالباً يقوم على نظام العقد الحجري، وهي ذات مساحات واسعة، فيها العديد من الغرف والأقسام.

تعاون ومشاركة

بناء البيت الريفي هو عمل شاق، يحتاج للكثير من الوقت والجهد، وعلى الرغم من بساطة مكونات بنائه، إلا أنه يتطلّب اجتماع أهالي القرية للمساعدة، وهذا ما يعكس طبيعة التركيب الاجتماعي الذي تميزوا به، بالإضافة إلى خاصية التلاصق بين البيوت، وقد اتُخذ هذا النمط المعماري غالباً لأسباب دفاعية في فترتي الاحتلالين العثماني والفرنسي، أثناء ما كان يسمى (الأخد عسكر)، أو خلال ملاحقة الثائرين ضد الاحتلالين، أيضاً للتخلص من ملاحقة (الورديان) لمزارعي التبغ.

وبسبب الخوف من بطش وظلم الاحتلال العثماني، هربت الكثير من العائلات التي كانت مستقرة في "حلب" و"حماة" و"حمص" إلى الجبال الساحلية، فكان لا بدّ أن يبحثوا عن أساليب تأقلم مع البيئة الجديدة، فتجمعوا في قرى صغيرة بنوها في السفوح الجنوبية المحمية من الرياح الباردة شتاءً، وبالقرب من الينابيع، ولقسوة المناخ ابتكروا حلولاً هندسيّةً لتقيهم من الحر والبرد، فكانت جدران بيوتهم المبنية من طبقتين من الحجارة، تصل سماكتها إلى أكثر من نصف المتر، أما الأسقف فقد عمدوا إلى تغطيتها بنبات "البلان" وتربة "الغضار"، مع الحرص على استمرار الترميم بعد كل عاصفة مطرية أو ثلجية.

أهمية تاريخية

إلى جانب تميّز الحياة الاجتماعية في تلك الفترات، ودفء العلاقات الأسرية التي احتضنتها جدران المنازل العتيقة، كان لمعظمها أهميةٌ تاريخيةٌ وحكايات يرويها من عاش فيها، كمنزل الراحل "عيسى خليل" في قرية "كاف الجاع" في ريف "القدموس"، عن إحدى حكايات هذا البيت التي أكسبته قيمةً تاريخيةً تحدّث حفيده "سامي حسن" الذي قضى فيه أياماً من طفولته: «بيت جدي هو أحد البيوت التي امتلكها الشيخ "صالح العلي"، وقد شهد الكثير من الأحداث التاريخية، ومنه انطلقت شرارة المقاومة ضد الاحتلال العثماني، بعد أن قام ورفيق دربه جدي المجاهد "سليم حسن" الملقب بـ "سليم زينة" بالتصدي لعدوان مجموعة من الجنود الأتراك على القرية، أيضاً شهد عدداً من حركات المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي بقيادة الشيخ "صالح"، ولاحقاً قامت به العديد من جلسات القضاء المحلي المعتمدة على الأعراف، والكثير من المصالحات، وإحياء المناسبات المجتمعية المختلفة».

وعلى الرغم من القيم التاريخية والاجتماعية والتراثية لهذه البيوت، والتي يعود تاريخ بناء الكثير منها إلى مئات السنين، إلا أنها لم تلق اهتماماً كافياً، حتى أن الكثير منها تهدّم وضاعت ملامحه، ولم يبقَ في كل قرية إلّا عددٌ قليلٌ منها غير مأهولة، فيما يسكن المأهولة منها بعض المسنين الذين رفضوا التخلّي عن ماضيهم وذاكرتهم، وهذا ما دفع البعض لمناشدة الجهات المعنية للعمل على ترميم هذه البيوت والاستفادة منها، من خلال تحويل بعضها إلى متاحف تراثية، أو مطاعم للوجبات الشعبية، ما يسهم في تنشيط السياحة في الريف، وتأمين فرص عمل، وتحسين مستوى معيشة الأهالي.