باتت العديد من الحرف والمهن – خاصة التراثية منها – في مهب الاندثار والزوال بفعل عوامل عدَّة، وتبقى مهمة الحفاظ عليها، وديمومتها، بأيادي المسؤولين عن حفظ التراث واستمرارية وجوده، من هذه الحرف ما تسمى (السنكري).

يحاول "بلال كسيبي" والملقب "أبو صهيب" بعد 40 عاماً من العمل بهذه الحرفة التي تعلَّمها، وورثها عن جده وأبيه، أن يستمر بالحفاظ عليها، ونقلها لولده الوحيد، رغم كل المصاعب التي تواجهه في الوقت الراهن كما يذكر في حديثه مع موقع مدونة وطن "eSyria""، وهو الذي بدأ بتعلِّمها مذ سن العاشرة من عمره، وهي من الحرف التي تحتاج جهداً بدنياً شاقاً نوعاً ما، بداية من قص قطع الفولاذ القاسية، والتي تصنع منها كافة الأدوات التي تختص بإنتاجها حرفة "السنكري"، كالحفارات الخاصة بالخضار، والسكاكين على اختلاف أحجامها واستخداماتها، إضافة إلى المِبرَد الذي يستخدم بعملية جلخ الأدوات المعدنية، وكذلك المناجل المستخدمة بالزراعة وغيرها.

عملية التصنيع كما ذكرها "أبو صهيب" تبدأ من عملية قص الفولاذ بالشكل المطلوب لتصنيع أداة ما، فالحفارة يتم صنعها من بكرات اللولب المستخدم بأبواب السحاب للمحلات، حيث تقصُّ بالطول المطلوب ومن ثمَّ تنتقل لعملية (الحمو) كما يطلق عليها، وهي عبارة عن عملية تسخين داخل "الكور" - الذي يشبه الفرن بآلية عمله - إلى درجة حرارة عالية بحيث يسهل تجليسها من خلال عملية الطرق التي تتم بواسطة "المهدة" ضمن قالب خاص يدعى "سدَّان" لتأخذ شكلها النهائي المطلوب، ثمَّ يتم سنُّها بواسطة آلة الجلخ لتصبح حوافها رفيعة، وتؤدي الغرض المطلوب، ويختلف طول الحفارة وسماكتها بحسب طلب الزبون والحاجة التي تستخدم لأجلها، ذات المراحل تتكرر عند تصنيع أداة أخرى، مع اختلاف "السدَّان" اللازم وضعها عليه، لتأخذ شكلها النهائي.

الحرفي بلال كسيبي

يستذكر "بلال كسيبي" لقطات من أجواء الحياة ضمن شوارع السوق الذي كان يضمُّ العديد من الحرف التراثية الأخرى، كالنحَّاس، والمبيِّض، ونجاري الخشب وغيرهم، وصخب الحركة الكثيفة للزبائن فيه، والذين كانوا بغالبيتهم من سكان القرى - بحسب قوله – والطلب على بضاعتهم التي ينتجونها، ولا ينسى ذكريات الفطور اليومي مع جيرانه، وطبق "الحمُّص" مع المخللات (من دكان أبو شمسو الأبيض) إضافة لخبز التنور من الفرن الوحيد الذي كان يصنعه في محلة "باب التركمان" وما يدور في تلك الجلسات من أحاديث ملؤها الفرح والنكتة، أمَّا اليوم، فقد غدا كلُّ ذلك من الذكريات، فمعظم جيرانه قد هجروا السوق مع بداية الأحداث التي شهدتها مدينة "حمص"، فمنهم من ترك العمل بحرفته بشكلٍ كامل، ومنهم من بقي يعمل بها في المكان الذي يقطن فيه ضمن حدود بسيطة، والواقع المزري للسوق من ناحية نقص الخدمات الأساسية من كهرباء وماء، عدا عن السقف الذي لم يتم ترميمه لغاية أيامنا هذه، والذي يعيق العمل إن كان في فصل الصيف أو الشتاء على حدٍّ سواء، حتى مادة "الفحم الحجري" المستخدمة بتشغيل "الكور" والتي يتم شراؤها حصراً من شركة "مصفاة حمص" وارتفاع سعرها بشكل دوري علينا، كلُّ ذلك يؤدي إلى عزوف أهل السوق عن العودة إليه، وإعادة تفعيل دكاكينهم الصغيرة، واستمرار هذه الحرفة وغيرها، ومنعها من الزوال والاندثار.

الصدفة جمعتنا مع "رفيق كسيبي" وهو أحد الحرفيين الذين استقر بهم الحال خارج السوق، وهو بالمناسبة من أبناء عمومة ضيفنا "بلال" وقد شاهدناه يزاول حرفته لكن ضمن نطاق الصيانة وليس التصنيع، ومما ذكره عن هذه الحرفة التي بدأ هو الآخر بممارستها مذ 40 سنة، بأنها أصبحت للأسف الشديد شبه مختفية، وليس هناك من أحد مهتم لاستمرار العمل بها، فهي تأثرت كثيراً بسبب إقبال الناس على شراء الأدوات الحديثة ذات المظهر الجذاب، كالسكاكين وأسياخ الشواء وغيرها، والتي لا تحتاج إلى صيانة دورية، كما هو الحال بالأدوات التي تختص حرفة "السنكري" بإنتاجها، التي لا استغناء عن بعضها بسبب صلابتها وفعاليتها، خاصةً أنَّ العديد من المهن تعتمد عليها، كالسكاكين الكبيرة الحجم والسواطير التي تستخدم بمهنة "القصابة"، والمصنوعة من الفولاذ ذو السماكة الجيدة لتناسب عملهم، عدا عن المقصَّات اللازمة بعملية جزِّ صوف الأغنام، والسكاكين المستخدمة لأغراض الزراعة والتعشيب.

بعض الأدوات المستخدمة بحرفة السنكري

يأمل "رفيق كسيبي" الذي يقطن في حي "الغوطة" الذي لجأ إليه بفعل التهجير القسري زمن الحرب، بالعودة إلى سوق "الحدادين" أو "النحاسين" كما هي تسميته القديمة والمستمرة لغاية أيامنا هذه، ومزاوله حرفته كما كانت في سالف الأيام، كما ذكر متابعاً بحديثه مع مدونة وطن "eSyria" لكن هناك ظروف عدَّة تمنعه من ذلك، منها عدم جاهزية السوق لاستقبال أصحاب الحرف وتنشيط أعمالهم، وبرأيه، فالمهنة في طريقها للاختفاء، خاصة أنَّ عدد العاملين بها، أصبح ضئيلاً جداً، والأجيال الجديدة من أبنائهم، غير راغبين بتعلُّمها ومزاولتها، ومنهم أبناؤه الثلاثة الذين رفضوا ذلك.

لقاءات الضيوف تمَّت بتاريخ 14 نيسان و 22 أيار على التوالي

رفيق كسشيبي يمارس حرفته على الرصيف