عشق اللغة الفرنسية منقباً عن مؤلفات يعربها، بروح المتعطش للثقافة والبحث وتقديم أفكار تترك أثرها في المجتمع، إنه "نبيل أبو صعب" مدرس اللغة الفرنسية الذي يعدّ الترجمة جسراً ذهبياً لعبور الحضارة.
مدونة وطن "eSyria" حاورت بتاريخ 15 نيسان 2014 المترجم الذي عرفت عنه غزارة الإنتاج، والذي أفصح بأعماله عن حالة فكرية ثقافية ينشدها بجد وتمكّن كانت محور الحديث الذي نقلنا منه بعض الرؤى:
تابعت عدداً من الإصدارات لهذا المترجم المتمكن، وكنت مناقشاً له في تفاصيل عديدة لكن تعامله مع المؤلف التاريخي كان لافتاً من حيث احترام منطق المؤلف والانتقال إلى روح العصر وتمكن اللغة، فقد قرأت "مذكرات كاربييه" وهي من ترجمته وعدداً من الإصدارات التي أعتبرها إضافة حقيقية إلى المكتبة العربية، ونصحت الكثيرين بالاستفادة منها إلى جانب إنتاج غزير ومتنوع بالمقاييس المعرفية والفكرية، وقد لمست طريقة تناوله للغة بمنطق المجتمع الذي صدر منه المؤلف متكلماً بروحه وناقلاً لحالة ثقافية تستحق الاهتمام والمتابعة
** الترجمة أحد الجسور الذهبية للانتقال بمجتمعنا من ضفة إلى ضفة، وربما تكون إلى جانب العلم الحديث والديمقراطية أهم هذه الجسور. بالنسبة لي كانت القراءة الدائمة هوايتي الأولى يرافقها فضول معرفي لم أخلص منه حتى الآن، بعد نيلي إجازة في الأدب الفرنسي درست الترجمة لمدة عام في دبلوم الدراسات العليا، لكن لم أتقدم مع مجموعة من زملائي للامتحان النهائي نتيجة أخطاء ارتكبتها إدارة الجامعة آنذاك، لكني كنت قد اخترت طريقي، شعرت بأن الترجمة ستكون الميدان الذي ستزهر فيه قراءاتي السابقة.
في البداية لم أكن في موضع القدرة على الاختيار، كان يهمّني أن أترجم لذلك قبلت كل ما عرضته عليّ وزارة الثقافة وكانت العناوين المتنوعة. بعد أن تعمقت خبرتي صرت لا أترجم إلا الكتاب الذي يعجبني مضمونه، وقد رفضت كتباً عرضتها دور نشر خاصة لأني قدرت أن مضمونها لا يسهم في الدور الذي ينبغي أن تلعبه الترجمة، أقصد المساهمة في تطوير وتحديث مفاهيمنا وقيمنا في كافة الميادين، لقد سبقَنا الغرب كثيراً أو نحن تخلفنا كثيراً، وما من وسيلة أخرى غير الترجمة تجعلنا نردم هذه الهوة السحيقة. إن "من نام على بساط اليقين هلك"، وبالتالي فإن الاستكانة إلى تمجيد الذات والتغني بمآثرنا دون الإشارة جهاراً إلى ما نعاني منه وإلى ما يلزم القيام به لتطوير مجتمعاتنا لن يقودنا إلا إلى المزيد من الغرق في مستنقع التخلف وما يجره من ويلات. الترجمة فعل واع لكل هذا وعلى المترجم انتقاء الكتب التي يوقن أنها تغني المعرفة في أحد جوانبها.
** في البداية ترجمت كتباً متنوعة المواضيع من علم النفس والتحليل النفسي إلى قصص للأطفال واليافعين إلى السينما، وبعبارة أخرى جلت في ميادين مختلفة للكبار والصغار قبل أن أهتدي لأهمية دور الترجمة، في المرحلة الأخيرة اهتممت أكثر بالعلوم الاجتماعية والنفسية الفردية والعامة، فترجمت كتباً، مثل: "أميركا بين داروين والتوراة"، و"فلسفة الجسد والشخصية"، والآراء والمعتقدات، وحوار في العالم الآخر بين "ماكيافيللي" و"مونتيسكيو"، كما اهتممت بترجمة مذكرات كل من "كاربييه" و"دوتي" سعياً إلى توثيق بعض الأحداث التاريخية التي تعرضت للتشويه والتحريف، فكل كتاب تترجمه يمنحك أفقاً جديداً ويأخذك إلى عالم جديد فتشعر بالثراء، وتشعر في الوقت نفسه بفقرنا المعرفي.
** يظل التدريس عملاً تأسيسياً في المجتمع خاصة إذا ما تكاملت عناصر العملية التعليمية كما أراها، والمتمثلة في مناهج متطورة باستمرار، محدّثة باستمرار، ومنسجمة مع متطلبات المرحلة وحاجات البلد، تحترم عقل الطالب ووقته، ومنجزات ثورة الاتصالات والمعلوماتية، مع تأهيل مستمر للكادر التعليمي ورفع مستواه المادي إلى أعلى الدرجات، ووضع إدارات انطلاقاً من الكفاءة وفتح المجال واسعاً أمام التميز الفردي وتشجيعه، والابتعاد عن التلقين والحفظ نهائياً، وتشجيع روح البحث والحوار.... إلخ. وعليه فإن عملي في التدريس زودني بلغة متينة لكن الترجمة علمتني التدقيق في الألفاظ ومعانيها وأغنت معلوماتي العامة التي أقدمها لطلابي، ويمكن القول إنهما عملان يكمل أحدهما الآخر مع أرجحية لمصلحة الترجمة؛ لأنها تفتح آفاقاً جديدة دائماً الأمر الذي لا يقدمه التدريس خاصة مع جمود الإدارات والمناهج.
** سأتابع العمل على ترجمة الكتب التي تعالج المسائل الاجتماعية السياسية والمعرفية، صحيح أن المجتمع العربي يحتاج إلى جهود طائلة وفي جميع الميادين بيد أن ميدان الدراسات الاجتماعية والعلوم الإنسانية عموماً أهم ما ينبغي العمل فيه. المعرفة الصحيحة تبدأ من توصيف الحالة إلى معرفة أسباب حدوثها إلى البحث في كيفية معالجتها، وكل ذلك بالاستناد إلى الشك بكل المسلمات وبما نعتبره يقينيات مطلقة، فلو كان كل ما نعرفه ونؤمن به صحيحاً لما وصلت بنا الحال إلى ما نحن عليه، تكبر دهشتي ودهشة القارئ حين نعرف أن الكثير الكثير مما نعانيه حالياً قد ناقشه علماء الاجتماع في الغرب قبل مئتي سنة تقريباً، وأننا لو أتيح لنا قيادات سياسية وفكرية مخلصة قرأت ما كتبه هؤلاء العلماء لكنا تجاوزنا الكثير من المآسي التي نشهدها حتى الآن، من هنا تقديري لدور الترجمة في نقل كنوز العالم الفكرية إلى لغتنا العربية، ووضعها في خدمة تطوير مجتمعاتنا. إن المرء ليعجب أشد العجب عندما يسمع ويقرأ المديح الذي تكيله كتب التاريخ لاهتمام العرب بالترجمة أيام ازدهار الحضارة العربية ويرى واقع الترجمة وحال المترجمين حالياً، وعلى كل هذا مثال على الانفصام الذي نعيشه بين ماض مجيد وعريق وحاضر لا يسعد إلا الأعداء أو من به مس من جنون بأنواعه المختلفة.
** لا يعني إتقان اللغتين الفرنسية والعربية أن تكون مترجماً ناجحاً لكنه شرط لا بد منه يضاف إليه متابعة مستمرة واطلاع دائم على العلوم والدراسات اللغوية والمنشورات الحديثة، وقبل ذلك معرفة بطريقة تفكير الشعب الذي تفكر عنه ونمط عيشه أي ينبغي أن تكون على صلة مستمرة بالحياة الثقافية للغتين العربية والفرنسية، لكن الأهم من ذلك كله امتلاك روح المترجم وحس الترجمة، فبما أن إجازة في اللغة العربية لا تجعلك شاعراً حقيقياً مثلاً، كذلك لن تجعلك مترجماً حقيقياً الإجازة في الأدب الفرنسي وحدها.
تناول مذكرات المنطقة والمؤلفات التاريخية جذبت انتباه الأستاذ "نصار واكد" أستاذ التاريخ وممثل الجمعية التاريخية في "السويداء"؛ الذي عبر عن رأيه بنوعية عمل ترجمي راق يؤديه الأستاذ "نبيل"، فقال: «تابعت عدداً من الإصدارات لهذا المترجم المتمكن، وكنت مناقشاً له في تفاصيل عديدة لكن تعامله مع المؤلف التاريخي كان لافتاً من حيث احترام منطق المؤلف والانتقال إلى روح العصر وتمكن اللغة، فقد قرأت "مذكرات كاربييه" وهي من ترجمته وعدداً من الإصدارات التي أعتبرها إضافة حقيقية إلى المكتبة العربية، ونصحت الكثيرين بالاستفادة منها إلى جانب إنتاج غزير ومتنوع بالمقاييس المعرفية والفكرية، وقد لمست طريقة تناوله للغة بمنطق المجتمع الذي صدر منه المؤلف متكلماً بروحه وناقلاً لحالة ثقافية تستحق الاهتمام والمتابعة».
الجدير بالذكر أن الأستاذ "نبيل أبو صعب" من مواليد 1952، عضو اتحاد الكتاب العرب، وهيئة تحرير مجلة الأدب العربي الصادرة باللغة الفرنسية، من مترجماته: "الهذيان والأحلام"، "الحاكم الهندي"، "رسائل الطاحون"، "كيف أصنع فيلماً"، "مذكرات كاربييه في جبل العرب".. وعدد من القصص والقصائد إلى الفرنسية وأعمال مشتركة مثل "مذكرات دوته" و"أميركا والثورات وداروين" و"فلسفة الجسد" وعدد من الإصدارات القيمة.