هو طبيب أحب عمله، ولكن العمل الفني التشكيلي استهواه بكافة أشكاله ما شجعه على الدخول في تفاصيل هذا العمل، حيث سكنه عشق "دمشق" فقدم لها بالصورة والريشة، حين وثق حاراتها بالصور الفوتوغرافية، أو بلوحة رسمها لتحكي عنها.

إنه الدكتور "قتيبة الشهابي"، طبيب الأسنان الذي قدم لمهنته وهواياته الفنية الكثير، فتجلى ذلك بالكتب التي ألفها، والصور التي التقطها، والرسومات التي عبر من خلالها عن هذا العشق.

هو رسام قبل أن يكون طبيباً، صور دمشق بعين فنان، مارس مهنة الطب بكل إخلاص، كان مؤرخاً ومصوراً مبدعاً، كريماً صاحب نكتة، وهو مثال الإنسان الذي نذر نفسه للعلم والمعرفة

تحدثت عنه زوجته الدكتورة "هالة حمامي" بالقول: «هو رسام قبل أن يكون طبيباً، صور دمشق بعين فنان، مارس مهنة الطب بكل إخلاص، كان مؤرخاً ومصوراً مبدعاً، كريماً صاحب نكتة، وهو مثال الإنسان الذي نذر نفسه للعلم والمعرفة».

"مدونة وطن- eSyria" التقت الباحث "محمد مروان مراد" الذي تحدث عنه بالقول:

«"قتيبة الشهابي" واحد من مبدعي الشام ما يزال بعد سنوات من رحيله باقياً بيننا بأحاديثه الشائقة وتهذيبه الراقي، وعطائه المجسّد في العشرات من مؤلفاته، ما يزال كما عرفته دوماً مزيجاً من العذوبة والشفافية والإحساس الرهيف بالفن الجميل، ووفائه لكل ما هو أصيل في مدينته الأغلى دمشق سواء في معالمها، أو طبيعتها، ورجالاتها الأخيار.

فهو مشروع رائد لتوثيق معالم دمشق التقيته ذات يوم بمعرض فني أقامه عام 1985، وعرض فيه لوحاته الزيتية، وصوره الفوتوغرافية، كان يتنقل مع ضيوفه أمام اللوحة ويقدم لهم مشغوفاً مجموعات الصور القديمة لمدينة دمشق التي خلّد فيها المصورون الأجانب في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين معالم المدينة بعدساتهم، أخبرني يومها أنه بسبيله إلى تأليف كتاب عن التراث الإنساني لأم العواصم دمشق، وأنه عاكف على جمع كل ما يقع تحت يده من مؤلفات قديمة وصور تاريخية وخرائط ومخطوطات وسجلات، لقد أخذ عليه هذا العمل مجامع فكره وجوارحه».

وعن تحضيراته لإصدار مؤلفاته يتابع حديثه بالقول: «غاب عنا شهوراً طويلة أمضاها في الطواف بمكتبات الأسواق والمدارس والجوامع، لينبش في رفوفها الكتب المهترئة، والمخطوطات المنسية فيهذّبها وينفض عنها الغبار ويعكف عليها بحثاً وتنقيباً، وصوّر ذلك كله وسجّله بطريقة علمية وفنية، ثم بدأ مرحلة ثانية جال فيها على طائفة من المعمّرين ودوّن رواياتهم المخزونة في الذاكرة، وانطلق متأبطاً "كاميرته" إلى الأوابد والمعالم العمرانية بدمشق.

وأخذ طوال شهور يصوّر الأسواق والحارات الضيقة والبيوت الدمشقية، التقط بعينه الفاحصة وعدسته الأمينة كل التفاصيل الجميلة، لم يترك ركناً ولا مرفقاً إلا ونقل دقائقه وسجّلها كلمة وزخرفة وتاريخاً، ثم عاد فراجعها وناقشها مع المتخصصين والمهتمين، فما هي غير سنوات قليلة حتى غدا مخزونه مجموعات نادرة توالى صدورها عاماً بعد عام لتصبح المحصلة بيدر مؤلفات مدهشة نافت على العشرين كتاباً، مثّلت في الواقع موسوعة متكاملة أمينة ترى فيها الأجيال قسمات المدينة الخالدة، وتستعيد فيها صور الماضي العريق في المشيدات التاريخية الراقية، ولو لم أكن مرافقاً ولزمن لهذا الإنجاز الكبير، ما صدّقت أنه عملُ محققٍ واحد، وإنما هو عمل مؤسسة فكرية بكل مكوناتها».

وعن أهم ما أنجزه "الشهابي" أشار بالقول: «نزل إلى الأسواق عام 1986، أول إصداراته مؤلّفه "دمشق تاريخ وصور" اشتمل على أكثر من 500 صورة لمعالم دمشق قديمها وحديثها وأكثر من عشرين خريطة لها، وصور لشخصيات وطنية وأجنبية ولأنشطة الحياة اليومية والاجتماعية، وقد عُدّ َالكتاب يومها «بيبلوغرافيا» مصورة تعيد النبض والألق للقسمات الدمشقية الجميلة».

ويؤكد "مراد" أن ظهور هذا الكتاب مثّل تفجّر ينبوع شفاف لا يكف عن التدفق فإذا بمؤلفاته الدمشقية تتوالى، فيتلقفها الناس وبالذات الباحثون والمؤلفون ويرون فيها مصادر موثقة تعرّفهم بالمرافق والمشيدات العمرانية الباذخة في دمشق بين حي وسوق وحارة وزقاق وجامع ومدرسة ومكتبة تراث وسبيل ماء ومقهى وخان وحمّام.. وقد أقام "الشهابي" كل هذه المفردات على محاور واضحة لتخدم أهدافاً محددة وهي جعل المؤلف الصورة أساساً رئيساً في العمل بحسبان أن المؤرخ كما يذكر "الشهابي" قد يخطئ أو يسهو أو يمر عابراً على نقطة أو فاصلة في لوحة أو شريحة من آبدة متهالكة، لكن الصورة تبقى شاهداً ودليلاً أميناً».

ويتابع عن وجوه العطاء في مسيرة إبداع الطبيب "الشهابي":

«تواصل لقائي بالمؤرخ الفنان لسنوات وكنت في كل مرة أطوّف بناظري في أبهاء بيته الأنيق الذي حوّله إلى متحف تتعانق على جدرانه لوحات من إبداعه رسمها في مراحل مختلفة، وصور دمشق التاريخية التي استغرقه جمعها سنوات طويلة، وتشغل مكتبته حيزاً واسعاً من صالة فسيحة تزدحم فيها المؤلفات الإنسانية في كل ألوان المعرفة وبالذات التاريخية منها والفنية، والمخطوطات النادرة كما تلفت الانتباه خزانة بلورية تراصت على رفوفها عشرات كاميرات التصوير من حِقب زمنية متعددة، بأنواع وحجوم مختلفة.

وفي أحد اللقاءات سألته بدهشة غامرة: هل أنت طبيب ورسام ومصور وباحث ومحقق وكل واحد في هذه المجالات عالم قائم بذاته، فكيف تستطيع أن توفق بين هذه العوالم في آنٍ واحد؟

فأجابني: لقد سئل السيد "روبنس" سفير بريطانيا في باريس وكان فناناً ذائعاً، هل يلهو السيد السفير بالرسم؟ فأجاب لفوره: لا ولكنني ألهو بالسفارة، والحقيقة هي أن كوني طبيباً وفناناً وباحثاً أمر يقع في إطار العطاء الإنساني الفكري، إن الطبيب بحاجة إلى الفن ليُنتج ويعالج بطريقة سليمة، ويحتاج الفنان كذلك إلى الطب لأن الفن عمل فكري، قبل أن يكون إبداعاً عاطفياً، والفنان الذي يملك الثقافة قادر على معالجة الأمور لونياً وشكلياً أكثر ممن لا يملكها، أنا في الواقع فنان ومحقق ألهو بالطب وأغني لدمشق بالصورة والريشة».

وفي نبذة عن الشهابي يذكر السيد "مراد" بالقول: «هو من مواليد دمشق عام 1934 أبوه الأمير أحمد الشهابي أحد مجاهدي الثورة السورية الكبرى في غوطة دمشق، وقد دفع أبوه ضريبة الجهاد اضطهاداً ونفياً عن البلاد لسنوات انتهت برحيل المحتل الأجنبي عن أرض الوطن.

في حداثته المبكرة استهوى التصوير الضوئي فاقتنى أول كاميرا بليرة سورية واحدة لازمته في كل مكان وتعلّم بها دروس التصوير الأولى، شغف كذلك بالمطالعة فقرأ لأعلام الأدب العربي وكتب قصصاً قصيرة نالت واحدة منها جائزة قيمة وعلى الرغم من أن والده كان محامياً فقد صرفه عن دراسة الحقوق ليختار دراسة طب الأسنان، فتابع فيها المرحلة الجامعية وتخرج طبيباً جراحاً بمرتبة متميزة كما حصل من لندن على شهادة التخصص العليا فلما عاد إلى الوطن تنقّل بين مراكز متعددة جمع فيها بين تخصّصه في طب الأسنان وعمله الأحب الفن والتاريخ فهو عضو الهيئة التعليمية في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق وأستاذ التشريح الفني بكلية الفنون الجميلة بدمشق وعضو في نقابة الفنون الجميلة وفي اتحاد الفنانين التشكيليين العرب وخبير ثقافي بوزارة السياحة وعضو هيئة التحرير في مجلة السائح وعضو لجنة تسمية شوارع مدينة دمشق».

في الشهور الأخيرة من رحلته دخل "الشهابي" في صراع مع المرض، فأصبح وقد أحسّ بدنوه من خط النهاية مقاوماً فذّاً، يواجه مواجعه بابتسامة ساخرة، ويعلن تحدّيه لتقهقر صحته وسلاحه عمل مضاعف وسهر بلا كلل، وقبل يوم من رحيله أخبرني:

«أنا لا أخشى الموت، أنا أقهره بالعطاء والإبداع، وكل إنجاز جديد لي يعطيني يوماً جديداً آخر، ولقد مشيتُ في طريق اخترته بكل رضاي، وكانت شجرتي خصبة وأعتز بثمارها.

تمدّد "الشهابي" في يومه الأخير على سريره بقرب شباك مفتوح على مشهد دمشقي فريد، جال بنظرته الدامعة على المعالم المتألقة قبالته على مد البصر، وافترّت شفتاه عن همسة خافتة: شكراً دمشق، صديقتي الأثيرة التي جعلت لحياتي معنى سامياً، وطعماً أرقّ وأعذب، وأطبق جفونه على المشهد».