حكاية الأبنية البازلتية في "السويداء" هي حكاية سواعد وآليات قَصّبت الحجر وقطعته ونضدته ليكون صالحاً للبناء والسكن، وليُرسَمَ المنزلُ ويكبُرَ كابنٍ للحكاية.
موقع eSuweda حاور بنّاءً قديماً في قرية "الثعلة" التي تبعد 12 كم عن مدينة "السويداء" ليحدثنا عما كان وما أصبح في أحوال البناء، في هذه القرية التي يخاوي فيها الحجر البازلتي الذي يميز حارات "السويداء" وأزقتها قوالب الاسمنت ليحكي قصة البناء في جبل العرب.
حافظ الحجر على وجوده في منطقتنا لأنه منتج الطبيعة الذي كان وسيلة لتأمين السكن لكن صعوبة العمل والأوقات الطويلة التي كان يستهلكها بناء المنزل جعل الناس يتجهون للبناء بطرق أسهل، اليوم أخذت الأبنية الاسمنتية تطغى على الصورة القروية القديمة، لكن الجميل أن الأبنية الحجرية القديمة لم يتخل عنها أصحابها إلا في حالات ضعف متانة البناء، أو في حال الحاجة لمنازل واسعة لتبقى بيوت الأسر الكبيرة عامرة بالحياة لهذا التاريخ
العم "أبو نضال سالم القاسم" قال عن ذلك: «لا مجال للمقارنة بين زمن كنا نخرج فيه للبرية لنجمع الحجارة لبناء المنازل أو نقص الصخور الصلبة وبين هذه الأيام التي نعيشها، فاليوم نحن بحاجة لانتقاء الحجارة والبحث عن الصخور المناسبة، والأصعب من كل ذلك هو عملية "القصب" أي قص الصخور لتكون مناسبة للبناء الذي نحتاجه. قد تستهلك هذه العملية أياماً طويلة لكن متعة بناء هذه الحجارة تنسينا التعب، ورغم اختلاف الحجارة من منطقة لأخرى إلا أن قساوتها تعتبر من أصعب المراحل لبدء العمل لأن ذلك يحتاج خبرة وقوة عضلية.
بنيت المساكن في هذه المنطقة بعدة طرق أقدمها "الكلّين" أي الطبقتين المتوازيتين من الحجر، حيث تكون الجدران عريضة متماسكة بطريقة تسمى الربط، ويكون الاعتماد فيها على حجارة تسمى "الربد" لتربط بين الصفوف، وهذه الأنواع المتينة من الأبنية مازالت موجودة حتى يومنا هذا.
هناك أيضاً طريقة بناء أخرى للحجر تسمى طريقة "الصف" وهي تعتمد على قياس محدد وزاوية ثابتة لتأخذ الجدران شكلها المنتظم الجميل».
إن الحرفية العالية لصناعة الأسقف كانت وراء استمرار المنازل رغم عوامل الطبيعة، وهي طريقة يوضحها العم "أبو نضال" بالقول: «كان للقدماء طريقة في صنع القناطر التي كانت تحمل البناء وتثبت الجدران، وللقناطر طريقة معقدة تعتمد على انجاز الجدران بطريقة "الكلين" التي ذكرنا، والعمل يكون على ارتفاع مترين بحيث توضع أقواس من الحجارة المصفوفة تسمى "الحنت" وهي التي ترتكز عليها القنطرة، وهي أقواس مازالت ميزة للبناء القديم في جبل العرب، وبين أقواس القناطر يصف "الربد" بطريقة دقيقة فهي تحتاج لجهود عدد كبير من الرجال. أما الفراغات التي كانت تظهر بعد البناء فغالباً ما كانوا يغطونها بوضع عدة أنواع من النباتات البرية "كاالعليق" أو "الحلاب" أو "البلان" وهي من النباتات التي لا تعشش فيها الفئران ولا تقترب منها. أما آخر مراحل العمل فإن العمال يقومون بوضع طبقة بسيطة من الطين ويفرشون التراب على السطح لسماكة تتجاوز 50 سم ليصبح السطح جاهزا ومقاوماً لعوامل الطبيعة المختلفة.
هذه الطريقة الصعبة تغيرت مع الزمن فتبدل الحجر بالخشب والحديد وطبقة من القصيب ومن ثم التتريب، وعندما ظهر الاسمنت بتنا نضع طبقة من الاسمنت بديلاً من الطين، ما جعلنا نرى عدداً كبيراً من الأبنية يجتمع فيها الحجر مع الاسمنت بشكل لافت فتغيرت طرق البناء بعد استبدال الحجر بمواد جعلت الحرفة تقتصر على بعض الأبنية والمداخل كنوع من التجميل».
من الأهالي من استعذب سكنى البيوت الحجرية ولم يتركها للإهمال ومنهم السيد "ناصر الياسين" الذي يسكن هو وأسرته أحد البيوت الحجرية الذي طوره ليكون مسكنهم الدائم حيث حدثنا قائلاً: «في هذه الدار القديمة عاش عدد كبير من الأسر هنا وهناك ما يزيد على عشرة غرف بنيت من الحجر على طابقين أسقفها من القناطر والربد، حاولنا تطويرها من خلال تجميل الشكل بالاسمنت للمحافظة عليها قدر الممكن خاصة أنها قوية ومتينة، وكان من الممكن هدمها وبناء مسكن جديد، لكن من تعود على السكنى في المنازل الحجرية يعرف الفرق بين الأبنية الإسمنتية وأبنية الحجر، الذي يحتفظ بالبرودة في الصيف وبالدفء في الشتاء. لقد جددت المضافة القديمة وعدداً من الغرف في هذه الفترة، وسنحاول تجديد الطابق العلوي لنضيفه لغرف السكن التي تتسم بالسعة والأسطح العالية وتتوافر فيها شروط التهوية، ومن يتجول في قريتنا يجد عددا كبيرا من المنازل القديمة التي حافظ عليها أهلها لتبقى ذكرى للأجداد كنمط فريد للبناء الذي يميز منطقتنا من غيرها من المناطق».
للأبنية الحجرية جمالها لكن للاسمنت مزايا باتت الأقرب لهذا العصر فكرة تحدث عنها السيد "وهيب القاسم"- معلم نجار بيتون- في هذه القرية وقال: «حافظ الحجر على وجوده في منطقتنا لأنه منتج الطبيعة الذي كان وسيلة لتأمين السكن لكن صعوبة العمل والأوقات الطويلة التي كان يستهلكها بناء المنزل جعل الناس يتجهون للبناء بطرق أسهل، اليوم أخذت الأبنية الاسمنتية تطغى على الصورة القروية القديمة، لكن الجميل أن الأبنية الحجرية القديمة لم يتخل عنها أصحابها إلا في حالات ضعف متانة البناء، أو في حال الحاجة لمنازل واسعة لتبقى بيوت الأسر الكبيرة عامرة بالحياة لهذا التاريخ».
الجدير بالذكر: أن البلدة القديمة في قرية "الثعلة" شأنها شأن عدد كبير من القرى في جبل العرب فقد بقيت مأهولة بالسكان الذين فضلوا سكنى الأبنية الحجرية وتطويرها لتقدم صورة تلتقي فيها جمالية الحجر البازلتي مع التصاميم العصرية.