ارتبطت الأغنية الشعبية منذ وجودها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي لمجتمعنا العربي ومازالت، حيث كان أجدادنا يحيون من خلالها مناسباتهم، ويستعينون بها على أسفارهم، ويعبرون فيها عن مشاعرهم الحزينة أو السعيدة، وخاصة "أم الزلف" و"الدلعونا" التي امتد انتشارها من "أنطاكيا" شمالاً حتى "خليج العقبة" جنوباً.
ففي "ريف الساحل السوري" بشكل عام، وفي "طرطوس" بشكل خاص لها عشاقها ومحبوها الذين تزين أيامهم وسهراتهم الليلية، ومواسم قطاف حقولهم، وفي أعراسهم ووفياتهم.
هيهات يام الزلف زلفا يا عينيا/ لا تكسروا بخاطري وبتندموا عليا/ لاطلع عا رأس الجبل واشرف على الوادي/ واصيح يا مرحبا نسم هوا بلادي
وكلما تقدم "الطرطوسي" بالعمر يزداد تعلقه بها فهي تروي- كما قال الجد "محمود شدود" من قرية "العصيبة"- تاريخ حياته ويستذكر بها كل مواقفها الكثيرة، وهنا يقول: «لقد أعدتني الآن خمسة وسبعين عاماً إلى الوراء، عندما كنا نجلس في المساء بعد يوم عمل طويل ونتبادل "المواويل" و"الدلعونات"، حيث كانت تخلق جوّاً من التحدي، ومباراة حامية الوطيس فيما بيننا أنا ومجموعة أصدقاء، والماهر بيننا من يستمر في تأليف الكلمات على نغمة "أم الزلف" و"أبو الزلف" لأنها تتحمل الكثير من الكلمات والتعابير الموزونة على قافيتها الأساسية، إضافة إلى أنها كانت رفيقة دربي إلى الحقل منذ الصباح الباكر، لأن منطقتنا الجبلية صعبة وتحتاج إلى ونيس لكيلا يشعر الشخص بها، ما يدفعني إلى الغناء الدائم على "أم الزلف" و"أبو الزلف"، ووصف كل تراه عيني في الطريق».
ويتابع: «لكننا في هذه الأيام نفتقد "أم الزلف" و"الدلعونا" والكثير من الأغاني التراثية في أفراحنا، بسبب زيادة الأغاني الشبابية سريعة الإيقاع، التي تحتاج إلى الكثير من القفز والحركات البهلوانية والأجواء الصاخبة، على عكس "أم الزلف" و"الدلعونا" التي تحتاج إلى الكثير من الحذر والتركيز والأجواء الهادئة، لتتناسب مع حركات المتلقي وأعماله، لذلك يمكنني القول إن لهذه الأغاني أجواءها الخاصة، ومتلقيها الخاصين هذه الأيام».
أما المطرب "علي نجوم" فيقول: «هي أغاني قديمة جداً لا أعلم عن تاريخها شيئاً، ولكن ما اعلمه أنها ارتبطت بحياة أجدادي بشكل كبير وكأنها تاريخهم وتأريخهم الذي كتبوا، فكانوا يستعينون بها على الأحزان فتفرغ لهم همهم، ويستبشرون بها بأفراحهم فتزيدهم فرحاً وسعادة».
ويتابع: «أنا كمطرب نشأت على "أم الزلف" و"أبو الزلف" و"الدلعونا" وغيرها من هذه الأغاني التراثية القديمة، وهي التي صقلت موهبتي وتبنت طبقات صوتي وأعطتها البراعة في الأداء ضمن مرحلة الشهيق والزفير، فهي تعطيك تناغما فيما بينهما، وهذا مهم جداً بالنسبة لأداء الفنان، لذلك لا أتوانى عن تقديم هذه الأغاني في حفلاتي عندما يطلبها الجمهور، وخاصة مع كثرة الأغاني الشعبية الصاخبة وإيقاعاتها السريعة الموحدة، على عكس نغمات الأغاني القديمة التي تحتمل وحسب كلماتها عدة إيقاعات منها السريع كـ"الطيرة" و"الكرجة" ومنها البطيء كـ"النايمة" و"الميلة"، حيث من المحتمل أن نلتقي في حفلة ما بمن يطربون بها ومازالوا يحبون الاستماع إليها، فنحن كفانين مرهونين بطلبات الجمهور وما يريدون الاستماع إليه».
الشاب "راكان علي" تمنى على أي مطرب شعبي في كل حفلة من حفلاته أن يقدم حوالي ربع ساعة من هذه الأغاني التراثية في حفلته كفقرة خاصة به وحق له دون أن يتدخل أحد من الجمهور فيها، «لأننا في حفلات هذه الأيام المطرب مرهون بطلبات الجمهور، والجمهور اعتاد على الأجواء الصاحبة ولم يعد يذكر الأغاني التي يمكن من خلالها أن نعيد قراءة تاريخ أجدادنا الشيق والممتع بما فيه مغامراتهم وحياتهم ورحلاتهم، فأغلب الجمهور هو من الفئات العمرية الصغيرة التي لا تذكر هذه الأغاني ولا تعرف عنها أي شيء، فمع ربع الساعة هذه في الحفلة وتكرارها دوماً من الممكن أن يجد فيها ضالته من حيث الأجواء والحركات، بعد كل هذا الصخب الذي نسمعه، وبالنهاية هذه الأغاني بصمة لا يمكن لأحد نكرانها ونسيانها لوقت طويل».
ويقول الباحث التراثي "حسن اسماعيل" خلال لقاء موقع eSyria به: «إن أغنية "أم الزلف" أو "أبو الزلف" تعتبر من أغاني "الحداء"، أي الغناء للقوافل أو أثناء القيام بأعمال تحتاج إلى وقت طويل، فالمسير أو العمل الطويل قديماً يتلازم مع الأغاني الطويلة، فهي تؤمن للمغني الإطالة التي يحتاجها، لذلك صنفت من أغاني "الحداء"، و"الحداة" كانوا من أهم عناصر الرحلة الطويلة أيام تسيير القوافل عبر الصحارى والجبال».
ويضيف: «إن أغاني "الحداء" فردية، أي يؤديها شخص واحد فقط، وهذا يعطي المغني فرصة للتكيف بأداء الأغنية أو الموال حسب قدرته الصوتية أو حسب حاجته للغناء وزمن العمل الذي يؤديه».
وحول معنى "أم الزلف" و"أبو الزلف" يقول: «كثرت الأقوال والتفسيرات حول معناها، حيث ورد في بعض الروايات أن "الزلف" هي السوالف أي "خصلات الشعر" التي تتدلى على جانبي الوجه، وكلمة "زلفة" مفرد "زلف"، وهو اسم ثمرة "الخرنوب"، ويبدو أنهم شبهوا "السوالف" أو خصلة الشعر بثمرة "الخرنوب" بشكلها وربما بلونها، وعبارة الشعر "الخرنوبي" التي تَردُ في تفاصيل البطاقة الشخصية ربما تشير إلى ذلك».
ويتابع: «وورد في كتاب الدكتور "ايميل يعقوب" أن "أم الزلف" هي صاحبة الأنف "الأذلف"، أي المرتفع وسطه والمنخفض كله، ولكن كلمة "الأذلف" وردت بحرف "الذال" بينما "الزلف" بحرف "الزين"، ومن جهة ثانية لم نسمع شاعراً تغنى بالأنف أو امتدح الأنف، بل ينطلق وصف الشعراء نحو الجبين والعيون والخدود والعنق والمبسم، وغير ذلك، أما في قواميس اللغة العربية، فقد وردت كلمة "الزلف" على أنها "الروضة" أو الأرض المعشبة المزهرة أو الفستان الملون المزركش، و"الزلفة" تعني التقرب، في حين ورد في قاموس المفردات "الآرامية" أن كلمة "الزلف" تعني "الثوب" الملون المزركش، وهي كلمة آرامية من أصل فينيقي، وكان "السوريون" يُلبسون آلهتهم "عشتار" ثوباً ملوناً مزركشاً في عيد الربيع ويغنون لها "يا أم الزلف"».
وعن رأيه الشخصي كباحث ضمن هذا التحليل يقول: «برأيي في كل الأحوال "الزلف" هو حالة جميلة، سواء كانت "الروضة" أو الأرض المعشبة أو الفستان المزركش الملون، وسواء أكانت هذه الحالة الجميلة مرتبطة بالذكر أم بالأنثى يمكن التغني بها، ولذلك يغني الناس "هيهات يام الزلف" أو "يا بو الزلف" والاثنتان صحيحتان».
وقدم لنا الباحث "اسماعيل" نماذج من أغنية "أم الزلف" منها:
«هيهات يام الزلف زلفا يا عينيا/ لا تكسروا بخاطري وبتندموا عليا/
لاطلع عا رأس الجبل واشرف على الوادي/ واصيح يا مرحبا نسم هوا بلادي».
ويضيف السيد "اسماعيل": «من الأغنيات التي كانت تردد سابقاً وبكثرة وخاصة في الأعراس، هي أغنية "الدلعونا" التي تعددت التراكيب والمطالع التي تبدأ بها، مثل "على دلالك على دلعونا" و"دلك يا دلك دلك دلعونا" وما إلى ذلك كثير، ولكن حقيقة المطلع ظلت نوعاً من الاجتهاد، فمنهم من قال إنها "ويلي من دلالك يام الدلعونا" أي ويلي من دلالك أنت التي تتدلعين، ومنهم من قال "عاليا دلعونا عاليا دلعونا" أي مدوا يد العون لنا، وأخذ الشكل الأول الذي يعطي معنى الدلع حظه في التداول والإشارة إلى غنج الصبية ودلالها، حيث كانت وسيلتها الوحيدة لشد الشاب إليها هي "الدلع" عندما لم يكن هناك كل المغريات ووسائل التزين».
أما إذا أردنا الغوص خلف معنا "الدلعونا" فسنجد طريقين أحدهما تاريخي والآخر لغوي، وهنا يقول السيد "اسماعيل": «إن المعنى التاريخي كما ورد في كتاب "لآلئ كنعان"، إنه كان للإله "بعل" الكنعاني ابنة اسمها "عناة"، وتدعى آلهة الخصب والخطبة وكانوا يسمونها الخطابة، حيث يتضرع الشباب الذين يرغبون بالزواج من حبيباتهم للآلهة "عناة" لمساعدتهم في الحصول على ما يريدون، فيقولون "ياعناة يدك ياعناة"، وهناك معنى تاريخي ثان وهو أيضاً نداء تداوله الناس للتعاون والمساعدة في بعض الأعمال التي يتطلب انجازها عدد كبير من الناس، فينادون بعضهم بعبارة "يد العون" مدوا لنا يد العون، ساعدونا.
أما المعنى اللغوي فقد ورد في قواميس اللغة العربية إن فعل "دلع" يعني"استرخي"، واندلع السيف من غمده أي استل منه، و"الدليع" و"الدلوع" هو الطريق الواسع السهل، و"المدلع" هو المربى على العز والنعمة، والدلوعة هي الحسناء التي تتمختر في مشيتها، وفي كل الأحوال فإن ما وصلنا إليه هو اتجاهان لمعنى "الدلعونا"، فإما أن يكون معناها "الإعانة" و"العون" أو "التَدلع" و"التَبختر" و"السير المتميز"، وفي كلتا الحالين يمكن أن تأخذ شكل أغنية شعبية لأن المعنيين مأخوذان من حياة الشعوب ويومياتها».
وختم الباحث "حسن" حديثه بالقول: «إن هذه الأغنية تردد من "أنطاكية" شمالاً حتى خليج "العقبة" جنوباً، ولها إيقاعات كثيرة لا تعد، ويمكن أن تؤلف عليها المقاطع الغنائية لأية مناسبة مهما كان نوعها "حزن" و"فرح" و"مديح" و"وصف" و"فخر و"اعتزاز" وحتى في مجال "الروحانيات"، ولها تسميات مختلفة ترتبط بأدائها وحالة المؤدي العامة، مثل "الدلعونة" النايمة و"الميلة" و"الكرجة"، ولكل منها دبكتها الخاصة بها، وهذا نموذج:
"على دلعونا على دلعونا/ راحوا الحبايب ما ودعونا".