في أغلب الأحيان كانت تلك القبعة الزرقاء أكثر من مجرد علامة على قدومه، فهي تحمل في جنباتها أسراراً وآمالاً عريضة، أحلاماً بغائب وراء البحار قد يعود، أفراحاً لأسرة تنتظر الفرج والراحة، وآمالاً لعاشقة بعاشق قد يرسل خبراً أو موعداً في ظرف أبيض مسمر وختم دائري على ضفاف الرسالة.

اليوم تكاد تختفي تلك القبعة، لم يعد أحد ينتظر مرور ساعي البريد ولا رسائله، البريد الإلكتروني والمحادثة ومواقع التواصل خلقت عالماً افتراضياً فيه الكثير من التفاصيل والقليل من الحضور، لعله الحنين إلى الصوت، ولعله الحنين إلى نغمة المفاجأة والسر الذي تحمله تلك السطور المخبأة وراء اللغة في الرسائل الورقية الدافئة.

كانت المرافئ في الدولة العثمانية تعتبر مراكز بريد تلقائية ولكل منها ختم خاص به، إضافة إلى النسر الرسمي للمدينة حيث كانت "اللاذقية" متصرفية عثمانية آنذاك

عن بعض نماذج تلك الرسائل والطوابع القديمة بحثنا في المدينة عن بعض المهتمين بالأمر، فالتقى موقع eLatakia السيد المهندس "حيان التكروني" وهو جامع طوابع ورسائل قديمة فحدثنا قائلاً: «عرف البريد ونظام إرسال الرسائل والتنبيهات منذ أقدم العصور وكان الأمويون في "دمشق" أول من أطلق نظام البريد في تاريخ الإسلام وأول من استخدمه، وفي العهد العثماني اهتم السلاطنة العثمانيون بنظام البريد لأهميته العسكرية والضريبية لهم وقد ظهر نظام البرق والبريد لأول مرة عام 1859 م وكان لهم في كل مدينة كبيرة مركز للبريد يتولى استقبال وإرسال الرسائل براً من خلال الأحصنة والخيول وكان هؤلاء يسمون "التتار" كما يقول الباحث الدمشقي "محمد سعيد القاسمي" في كتابه قاموس الصناعات الشامية.

أما بحراً فمن خلال السفن البحرية التي كان أغلبها خلال القرن الثامن عشر روسياً وتركياً وتشهد صور مرفأ "اللاذقية" و"جبلة" القديمين ذات المصدر الروسي والتركي والفرنسي على أهمية مرفأ "اللاذقية" في البحر المتوسط وقتها».

ويتابع السيد "التكروني" حديثه فيقول: «ظهرت الطوابع في "اللاذقية" بعد فترة قصيرة من ظهورها في بريطانيا البلد الأول في العالم الذي اخترع الطوابع، أول طابع وصل "اللاذقية" كان بتاريخ منتصف القرن الثامن عشر وهو طابع روسي وهو موجود حالياً لدى جامع طوابع بريطاني».

وعن كيفية حصول "التكروني" على الطوابع والرسائل؟ أجاب بالقول: «منذ فترة طويلة اهتممت بالطوابع والرسائل القديمة حيث كنت أبحث في المجلات عن هواة الرسائل والطوابع في البلاد العربية والأجنبية وأقوم بمراسلتهم ونتبادل الطوابع والرسائل وأحياناً نقوم بشرائها إذا كانت نادرة وغير متوافرة للعموم، وعموماً تعمد الدول دائماً إلى إصدار مجموعات طوابع في المناسبات الوطنية ولتكريم زعماء أو أدباء أو مفكرين ومخترعين وغيرهم من العلامات الفارقة في تاريخ البلد وبالتالي على جامع الطوابع أن يكون ملماً بتاريخ العالم على العموم كي يكون لمجموعته حضور وقيمة».

وأضاف المهندس "التكروني" أن أسعار الطوابع وأغلفة الرسائل ترتفع كلما كانت أقدم وغير مختومة وصحيحة أي بلا تمزق أو أطراف مشققة، فهناك مثلا طابع سوري من إصدار حكومة "اللاذقية" أبان الاحتلال الفرنسي مختوم بختم "اللاذقية" بالعربية والفرنسية وعلى الخلفية صورة قديمة لمدينة "حمص" السورية تطير فوقها طائرة هي على ما يبدو من شكلها من طائرات الحرب العالمية الأولى والطابع يستعمل في البريد الجوي وهو بسعر نصف قرش، وسعره الآن يبلغ 150 جنيهاً إسترلينياً.

من "اللاذقية" إلى الاسكندرية

للاطلاع على نماذج من الرسائل القديمة قدم لنا السيد "حيان" صوراً لثلاث رسائل مع أغلفتها من أرشيفه الذي يضم رسائل وطوابع قيمة، فكانت الرسالة الأولى مرسلة من "اللاذقية" إلى "الإسكندرية" عام 1865 في شهر أيلول، غلافها أزرق ومدموغ بالوردي ومختوم بختم نسر "اللاذقية" الدائري الأزرق وختم "ميناء اللاذقية" وكتب على غلافها العبارة التالية بالعربية "بمطالع حضرة الأخ الأغر الخواجة ديمتري شيبوب المحترم حفظه الله" وعليها طابعان بريديان روسيان بقيمة ثلاثة كوبيكات والكوبيك مازال جزءاً من العملة الروسية للآن يعادل واحد من مئة من الروبل.

سألناه عن دلالة ختم ميناء "اللاذقية" فقال: «كانت المرافئ في الدولة العثمانية تعتبر مراكز بريد تلقائية ولكل منها ختم خاص به، إضافة إلى النسر الرسمي للمدينة حيث كانت "اللاذقية" متصرفية عثمانية آنذاك».

أما نص الرسالة فقد كان ممكناً قراءة السطور التالية لأن الزمن والرطوبة فعلا فعلهما بالحبر الصيني المكتوبة به الرسالة، تقول السطور المقروءة: "من شهر أيلول من سنة 1865 / جناب حضرة الأخ "ديمتري بن شيبوب" المحترم حفظه الله. بعد السلام والتحية/ بعد أن أجرينا اتفاقنا في نهاية..... خطونا خطوة إضافية حيث قمنا بالاتصال بالأخ جورج.... بتسليم 350 من 469 وقد وصلنا... وتبين انه مرتاح... ويرغب بتوسيع... وقد جئنا منكم طالبين وراغبين... وخادم الطيبين...".

الرسالة بمجملها تقع في عشرين سطراً تقريباً ويبدو أن المتراسلين يعملان في التجارة واتفقا على توريد قطع معينة إلى "اللاذقية" من "الإسكندرية".

من "اللاذقية" إلى "بيروت"

أما الرسالة الثانية فهي مرسلة من "اللاذقية" إلى "بيروت" عام 1868، غلافها أبيض سميك مسمرّ، ومدموغة كذلك بنفس الدمغة السابقة ومختوم بختم "اللاذقية" ومرسلة عبر البحر وعلى الغلاف كتب عنوان المرسل إليه بالعربية التركية وهو "جناب الأستاذ الأجلا الخواجات موسى بسترس وأولاد أخوته المحترمين" وكتب الاسم أيضاً مع اسم مدينة بيروت بالفرنسية.

المرسل هو السيد "أنطون بوش" وعنوانه "اللاذقية بجانب خط ث /2" ويليه رقم /65/ ولا يمكن الآن التعرف على هذا العنوان أو أين يقع ولو أن عائلة "بوش" و"بوشي" و"البوشي" لا تزال تعيش في مدينة "اللاذقية" وتعمل في صناعة المفاتيح حالياً.

كتبت الرسالة على ورق أصفر وبحبر مشابه لحبر الغلاف ومضمونها باختصار السؤال عن الأحوال والأعمال ومن ثم رغبة المرسل في أن يعرف ماذا حل بالعائلة بعد أن تركت "اللاذقية" إثر مصابها بفقدان سيدة البيت بعد مرض عضال أصابها.

الرسالة هي افتقاد حقيقي من قبل المرسل لجيرانه الذين كانوا في "اللاذقية" جيراناً طيبين، اللافت في الرسالة أن عنوان المرسل إليه هو كما ذكرنا فقط، فلا شارع ولا حارة ولا غيره من البيانات، وفي تفسير ذلك قال لنا محدثنا: «الظاهر أن المرسل إليه إما كان شخصاً معروفاً بحيث لا يحتاج ساعي البريد إلى عنوانه المفصل، أو أن هذا الشخص كان يراجع مركز البريد ليتفقد فيما إذا وصلته رسائل من الأصدقاء والخلان في "اللاذقية".

من اللاذقية إلى مرسيليا

يتابع السيد "التكروني" إطلاعنا على نموذج ثالث ولكن أحدث فيقول: «هذه الرسالة مرسلة من "اللاذقية" إلى "مرسيليا" عبر "بيروت" بالبريد الجوي عام 1932، ومرسلها كان يسكن في إحدى قرى مدينة "بانياس" في محافظة "طرطوس" فقد كان الساحل السوري كله تابع إدارياً إلى مدينة "اللاذقية" أيام الاحتلال الفرنسي لسورية، الرسالة مكتوبة بالإسبانية ومن الأكيد أن كاتبها ليس مرسلها فلم يكن هذا الرجل يتقن الإسبانية لأنه كتبها بعد فترة قصيرة من هجرته إلى هناك، لماذا كتبها بالإسبانية لا أعرف، ولكن مضمونها هو توصية بهذا الرجل لدى إحدى العائلات الفرنسية التي تعيش في مرسيليا ويتضح ذلك من اسم المرسل إليه (السيدة زولير روبيرت- 8- شارع أوبيرت) وعليها طوابع سورية بقيمة (مئة وخمسة قروش سورية ونصف قرش سوري)، غلاف الرسالة مدموغ بعدة دمغات وأختام للاذقية والطوابع عليها صور لمدن سورية عديدة وجميعها تطير فوقها طائرة من نماذج طائرات النصف الأول من القرن العشرين».

أخيراً سألنا محدثنا عن كيفية العمل والعناية بالطوابع والرسائل فقال: «من المهم نزع الطابع عن الرسالة دون تمزق واستخدام المكبرة لمتابعة النزع بهدوء ودقة وأعصاب باردة، توجد عدة طرق لنزع الطوابع عن الرسائل منها الترطيب بالماء إلا أن سوءة هذه الطريقة إمكانية أن يلوث الحبر الطابع فلا يمكن محوه بعد ذلك، البعض الآخر يلجأ إلى التسخين غير المباشر وهذه الطريقة أفضل إذا كان الطابع مختوماً، يجب وضع الطوابع بعيداً عن مصادر الرطوبة والحرارة ووضعها في الألبومات الخاصة بها المتوافرة في المكتبات وتصنيفها إلى مجموعات حسب التاريخ والدولة».