بين مهن شعبية كثيرة آيلة للسقوط ومهن أخرى سقطت وضاع ذكرها بتقادم الزمن ظلت مهنة "الخبازة" في ذاكرة أهل "الدير" وظل منزلها يعج بذكرى النساء اللواتي اعتبرنه متنفساً يومياً لهن ومجلساً يأخذ عدة ساعات من أيامهن الرتيبة، فالذهاب إليها يعد امتيازاً والخروج من عندها له طقوس خاصة.

للتعرف على هذه المهنة وصاحبتها التقى eSyria بالحاجة "جيهان الباقر" التي أفادتنا بالقول: «"الخبازة" امرأة من نساء الحي تجيد الخبيز وغالباً ما تكون امرأة فقيرة فتلجأ إلى هذه المهنة لتعينها على مصاعب الحياة ونفقاتها، و"الخبازة" موجودة في كل حارة، ويكون التنور في بيتها أكبر من التنور العادي في بقية المنازل ويتم استبداله كل سنتين أو ثلاث سنوات لأنه يبدأ بالتشقق، وتحصل "الخبازة" مقابل إعدادها خبز العائلات الميسورة بشكل يومي على مبلغ شهري بالإضافة إلى رغيف عن كل دفعة من الخبز وتسمى الدفعة الواحدة "سجرة أو خبزة" وهي كل مرة يحتاج فيها التنور إلى إعادة إشعاله من جديد، وكانت أول "سجرة" تسمى "شليف" أما الثانية فتسمى"ثني".

من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تراجع مهنة "الخبازة" قبل الاعتماد على الأفران العامة كان دخول الرجال إلى هذه المهنة ومنافسة النساء العاملات فيها، حيث بدأ الرجال يزاحمون النساء في مهنة الخبيز والذي كان مهمة نسائية خالصة حتى صارت "التنانير العامة" خالصة للرجال

أو أنها تستعيض عن الرغيف بقطعة من العجين تقوم بخبزها مع ما تأخذه من قطع عجين من البيوت الأخرى وتقوم بخبزه وبيعه في السوق، ورغم وجود التنور في معظم بيوت الحي إلا أن "الخبازة" لا غنى عنها وهنالك بيوت اعتادت على خبزها ولا تستطيع الاستغناء عنه حتى مع وجود نساء في المنزل، وتحمل المرأة الذاهبة إلى "الخبازة" العجين ضمن وعاء يسمى "المخمر" وتحمل معه طبق فيه كمية قليلة من الطحين تسمى"لكوك" يوضع في الوعاء الذي يتم تقطيع العجين فيه لكيلا يلتصق.

السيدة جهان الباقر

والمرأة إن خرجت بخبزها من بيت "الخبازة" كان لزاماً عليها أن تدعو أي جماعة تمر بهم إلى تناوله فإما أن يأكلوا منه أو أن يعتذروا بالقول: دوم خبزكم حار وقلبكم بارد، وهي دعوة لإبعاد المصيبة عمن يدعى له بها، فهي تخرج حاملةً الأرغفة فوق غطاء "المخمر" الذي أتت به لأن "مخمر" العجين غالباً ما يكون أصغر من الأرغفة.

ومن الجدير بالذكر أن مجموع الأرغفة التي تحصل عليها "الخبازة" وتنتقيها من كل "سجرة" يمكن أن تطلب بأسعار جيدة وتقوم ببيعها لأحد البيوت».

خبز التنور

وفيما يتعلق بالتجمع عند "الخبازة" فقد حدثتنا عنه السيدة "يسرى العلوش": «كلما كانت "الخبازة" ماهرة كان بيتها مجمع النساء في الحي حيث يتطلب الحصول على الخبز عدة ساعات من انتظار الدور ما يتيح لهن الجلوس لفترة طويلة ولهذا يصبح الذهاب إلى بيتها مثار تنافس بين فتيات المنزل أو زوجات الأبناء فهو فرصة للتواصل مع نساء الحي وسماع الجديد من الأخبار وعرض المثير من القصص بالإضافة إلى ما يتيحه هذا الوقت من قدرة على التفاخر والحديث عن آخر المشتريات وعرض أنفس ما في المقتنيات، كما أن الكثير من الزيجات تبدأ شرارتها الأولى هنا لأنه ملتقى يومي يتيح التعرف على الآخرين بعفوية، هذا غير أنه يعتبر مكاناً للتسلية والترفيه عن النفس، فبحكم أن معظم النساء في "الدير" كن ربات منازل لا يغادرنها إلا نادراً فقد كانت الاجتماعات النسائية محدودة ولم يكن يوجد تجمع يوازي هذا التجمع سوى مجالس العزاء إلا أن ملتقى "الخبازة" أقرب إلى النفس لخلوه من جو الحزن السائد في العزاء».

وحول الصفات التي تتميز بها "الخبازة" الماهرة والتي تجتذب الجارات حدثتنا السيدة "كوثر العويد" بالقول: «أهم ما في الأمر أن تكون "الخبازة" كما يقال بالعامية "امرأة مستورة" ومن النوع الذي لا يثير المشاكل وذلك لأن معظم نساء الحي يمضين في منزلها وقتاً طويلاً، أما على مستوى الخبز فيجب أن تكون أرغفتها من النوع الجيد كأن يكون الرغيف متسعاً ودائرياً ومشقراً أما الرغيف الذي يميل إلى الاستطالة فيسمى "ممطول" ويعتبر مؤشراً على رداءة الخبز وقلة مهارة "الخبازة" وكذلك أن يكون الخبز محترق الأطراف "مشلوط" وكذلك الرغيف الذي تكون أطرافه سميكة فلا تنضج وهذا يسمى "عجين" أي إنه ظل بعد الخبز على حاله».

ومن الجدير بالذكر أن اختفاء "الخبازة" من الحارات لم يكن سببه قلة الاعتماد على خبز التنور فقط بل هنالك سبب آخر ذكره السيد "سليمان العبد" بقوله: «من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تراجع مهنة "الخبازة" قبل الاعتماد على الأفران العامة كان دخول الرجال إلى هذه المهنة ومنافسة النساء العاملات فيها، حيث بدأ الرجال يزاحمون النساء في مهنة الخبيز والذي كان مهمة نسائية خالصة حتى صارت "التنانير العامة" خالصة للرجال».