لم ينتم لأية مدرسة تشكيلية أو أدبية، بل بدأت خطوته الفنية الأولى مع فرقة "المسرح الحر"، عاشقٌ شابٌ في التاسعة والستين، هزم السرطان والتسلخ الوريدي عبر عملية أجريت له في إحدى مشافي "ألمانيا" رافضاً تخديره تخديراً كاملاًً ليراقب خطوات العملية، طويل القامة له عينان تشبهان عيني صقر، يعشق النساء ويكتب عنهن في مذكراته، يرحل ليلاً بفكره إلى "هوليوود" ويعاود المجيء إلى "قاسيون" "دمشق" حبيبته الدائمة.

إنه الفنان القدير "خالد تاجا" الذي مازال وقع خُطاه حاضراً على خشبة مسارح "دمشق" عبر مسيرة فنية منذ خمسينيات القرن الماضي، الذي لن تستطيع هذه الحروف والكلمات السريعة أن توجز مسيرته، مسيرة بطل "التغريبة الفلسطينية" و"غزلان في غابة الذئاب" إلى جانب الكثير من الأعمال التي قدمها أمام عدسة الكاميرا وعلى خشبة المسرح التي حفرت خطاه عليها.

زيارة eSyria إلى منزله في "مشروع دمر" كانت من إحدى المجازفات التي نقوم بها، فعليك أن تمشي بحذر داخل البيت حرصاً على التحف والأنتيكات التي تحيط بك من كل جانب، خلال وصولنا فتح الباب ورحب بنا أحر ترحيب ومن ثم أشار بالدخول إلى يسار الغرفة، ووسط جوٍ دمشقي تراثي كان لنا معه هذا اللقاء.

في منزله

  • بداية أستاذ "خالد تاجا" كيف تحدثنا عن دافع اختيارك للتمثيل؟
  • ** تُوْلَدُ ملكات الفنان معه في الجينات، وهو لا يختار طريقه بل الجينات هي التي تختار. بمعنى أن التمثيل هو الذي اختارني، وجدت نفسي أمثل وأقلد في الصغر وقد كنت أهرب من المدرسة لأحضر عروض السينما. عندما كنت صغيراً تابعت خيال الظل في مقهى قريب من بيتنا، قمت باكتشاف اللعبة ورسمتها على الكرتون، فقلّدت العرض وقدمته لأصدقائي في ساحة دارنا العربي بسفح جبل "قاسيون". كنت ألبس ثياب جدي وأمي وأخرج بها إلى الشارع وأقلد كثيراً، وفي إحدى المرات شاهدت عرضاً مسرحياً للأستاذ "عبد اللطيف فتحي" من أعلى شجرة كنت قد تسلقتها لأنهم منعوني من مشاهدتها بحجة صغر عمري آنذاك. فكل هذه الأمور كانت تدور في مخيلتي ولها الدور الكبير في وصولي إلى ما أنا عليه الآن. فأعود وأقول إن الفنان لا يختار أن يكون فناناً بل جيناته هي التي تختار طريقه، وهنا اكتشفت أن ثمة شروطاً للشخص الممثل وهي أن يتمتع بعلم الفراسة ويقرأ ايماءات الوجوه وحركة الأشخاص، وأيضاً أن يكون لديه القدرة والفهم الكافي في مجال علم النفس وقراءة ما داخل هؤلاء من خلال حركاتهم وتصرفاتهم.

    خلال الحوار

  • لم لم تختر طريق الفن التشكيلي بما أنك كنت ترسم وتكتب الشعر، وقد عملت في فترة ما بديكور المنازل؟
  • ** كنت أكتب الشعر وأنا في سن صغيرة, توقفت عن كتابته في سن /25/، كما كنت أرسم وتوقفت عام 1983, التلفزيون خطفني كلياً من كل شيء, بحيث لم يبق عندي متسع من وقت لأراجع نفسي, فعندما دخلت الوسط الفني وعرفت كممثل انشغلت كثيراً عن الأمور الأخرى مثل التشكيل والشعر فاندمجت بالتمثيل وقراءة النصوص واختيار الأدوار المناسبة، إنني في العام الواحد أقرأ ما يقارب 15- 20 ألف صفحة لأختار منها الأدوار التي سأعمل على تمثيلها، ويمكن أنني أقوم بتعويض الرسم والشعر بطرق أخرى، حيث أركب سيارتي وأدور بها شوارع "دمشق" لأقرأ وجوه الناس والمارة وأمعن النظر إلى تعابير الحزن والفرح على الوجوه، أدرس الناس من خلال سلوكهم وأحياناً من قيادتهم للسيارة، وهذا شيء متعلق بعلم الفراسة ومهنة التمثيل، فحياتي كلها مرتبطة بهذا المناخ وهذا فلكي وعالمي الذي أدور وأسبح فيه.

    مع مدونة وطن

  • هل لاقيت معارضة من بيئتك لقرار دخولك لمهنة التمثيل؟
  • ** بيئتي ليست متشددة كثيراً، وإنما بسيطة بكل المقاييس والمعايير، حيث كنت أعذبهم كثيراً وأوصلهم لحالة ألا يعرفوا ماذا أريد حتى إن والدتي في أحد الأيام أخذتني إلى مصلحة اجتماعية لكي ترى ماذا أريد، عائلتي كانت فقيرة جداً وكنا /9/ أطفال ولم أكن أحصل على كل الأشياء التي أرغب بالحصول عليها، ربما هذا كان الشيء الوحيد الذي دفعهم بأن يحتاروا ماذا يفعلون معي، ولم يعترضوا على قراري ربما لأني عنيد وهم يعرفون ذلك.

  • ما الذي تشتاقه من طفولتك؟
  • ** أشتاق إلى الأحلام غير المحدودة، فالأحلام بحاجة إلى مساحة من الزمن، وحتى تحلم يجب أن تحس بأن الوقت ملكك وأن هناك مساحة كافية لتحقيق هذه الأحلام، فهناك أحلام بحاجة إلى عشرات الأعوام لتتحقق وهنا الزمن الذي بين يديك غير كاف لهذه الأحلام، هذا ما يزعجني ويربكني ويدعني أفكر بالأشياء الممكن تحقيقها فقط.

  • ما الفكر الذي تبنيته خلال مشوارك؟
  • ** أعتقد أنني أول فنان في سورية قرأ كتاباً من إعداد "لستان سلافسكي"، حيث قمت بسرقته من المكتبة لعدم توافر النقود معي. قرأت الكتاب وبحثت فيه إلى أن وصلت إلى مسرح "عبد اللطيف فتحي" فأنار لي الطريق وأدخلني عالم الأدب والتمثيل والمسرح بنفس عميق وخبرة علمية عميقة، هذا الكتاب أثر فيَّ كثيراً وأسس في مخيلتي فكراً جديداً وطريقاً جديداً، إلى حد توصلت فيه إلى أنني كنت أُلخص مواضيع من هذا الكتاب وألقيها على أصدقائي على شكل دروس.

  • نظرتك تشبه نظرة الصقور وليس الغزلان. ماذا عن عشقك للجبال والغابات؟
  • ** أنا لا أحب البحر لانه يحسسني بالغدر وليس له أمان، أهوى المرتفعات والصخور والجبال، ودائماً أحلم بالصعود إليها لأنني أحس بعظمة الأرض من قمتها، فهذا الشموخ الراقي يجذبني بشدة ويدخل إلى قلبي الشجاعة ويعطيني دفعاً قوياً للوصول إلى قممها، ولو كانت هناك عودة للحياة فأتمنى أن أعود صقراً وليس غزالاً وقتها سأعيش مع الأقوياء وليس مثل الآن نصفي مع الضعفاء.

  • هل تشتاق لماضيك في أزقة وحارات "ركن الدين"؟
  • ** هذه الحارات لها حميمية خاصة في ذاكرتي، حيث كنا نتسلق البيوت وندور فوق كل السطوح المرتبطة ببعضها من خلال كتل اجتماعية، الحنين كان نابعاً وقتها من كل الأحياء، وأنهر دمشق السبعة كانت تنبع بغزارة. نعم أشتاق لتلك الأزقة وأرغب دائماً بالعودة إلى ذلك العالم الحنيني والنابع من بساطة فطرية رائعة، فأنا دائماً يتردد إلى ذهني المقولة التي تقول "أريد لنوافذي أن تكون مشرعة، وأن تهبَّ على بيتي ثقافات كل الأمم بكل ما أمكن من حرية، ولكني أنكر على أية منها أن تقتلعني من أقدامي، إن مذهبي ليس ديناً مغلقاً، بل فيه مجال لأقل مخلوقات الله شأناً"، أرغب بأن احتفظ بهذه العادات والتقاليد وتلك الذاكرة التي أصبحت جزءاً من جينات الجسد.

  • كيف تقضي يومك خارج الاستوديوهات؟
  • ** ليس لدي وقت لأقضيه خارج الاستوديوهات، فكما ترى وقت الفراغ أقضيه في قراءة النصوص واختيار الأدوار المناسبة لتمثيلها وأحياناً في تصحيح أخطاء تلك النصوص.

  • مَنْ مِنَ الكُتّاب العرب والعالميين تقرأ لهم؟
  • ** ذهبت كثيراً في الأدب والشعر الأوروبي مثل "سارتر" و"هيغن"، والمحدثين الجدد مثل "ماركيز" و"آمادو" والكثير من الكتب الجميلة التي تابعتها وتأثرت بها كثيراً، كما قرأت للكتاب العرب مثل "المتنبي"، "بدر شاكر السيّاب"، "محمود درويش"، وكمٌ هائل من الشعراء والكُتّاب العرب، والآن الزمن أصبح مضغوطاً كثيراً في عالمي ولا أقدر على قراءة شيء سوى النصوص.

  • كيف تفسر لنا تبنيك لفلسفة النملة والنحلة؟
  • ** النملة تعني لي عدم اليأس، والنحلة تعني الصبر والبحث دائماً عن المستحيل، وأنا اعتقد هنا أن للنمل طريقة مميزة ورائعة في حياته، ولو تقيّد الحكام العرب بهذا النظام لتجاوزوا الكثير من العقبات والمشاكل التي نحن بصددها الآن.

  • كيف بنيت هذا المخزون الثقافي الذي تحتفظ به؟
  • ** هو حب الحياة والأشياء والمعرفة إلى جانب الفضول والاكتشاف، فكل هذه الأمور أرهقتني وجعلتني أتعمق في اكتشاف الأمور والواقع الذي نعيش فيه، فكانت النتيجة هذا المخزون الثقافي الذي تتحدث عنه.

  • أصبت بداء السرطان وبالتسلخ الوريدي، ونجوت منهما بجدارة. من أين أتيت بهذه القوة؟
  • ** تغلبت على داء السرطان بمقاومة جسمي له مع أنني كنت في مرحلة خطيرة ومتقدمة، أما التسلخ الوريدي فهو نفس المرض الذي أودى بحياة الشاعر "محمود درويش"، فليس له علاج هنا في سورية، وهذا ما دفعني إلى الانتقال إلى "ألمانيا" للمعالجة عند بروفيسور معروف هناك، فقد انجزت العملية بنجاح كامل، وكنت أشاهد العملية الجراحية على شاشة مسطحة بكل تفاصيلها، إلى درجة أنني استطعت أن أفصل بين العملية التي تجري داخل جسمي وبين تلك التقنيات والإبداع العالي على الشاشة المسطحة.

  • ماذا يعني لك شهيد مثل "مغنية"؟
  • ** تعرفت على "مغنية" بعد استشهاده، وخلال قراءتي لماضيه اكتشفت أنه الشخص الذي أخرج الأسطول الفرنسي والأمريكي من "لبنان" بعد عملية قتل فيها /150/ من جنود الأعداء، كما لديه ثلاثة أولاد مسجلين باسم أبناء شهيد، إنه مطلوب من أكثر من /20/ جهاز أمن في العالم، وقد كتبت قصيدة به تقول: "بعد أن رحلت قالوا لنا من أنت، لم نكن نعرف اسمك لم نكن نعرف رسمك، كنت جسراً للعبور كنت مصراً، كان ياما كان في حالك الأيام بيننا رجل رفيع الشان، اسمه مغنية، أصبح رمزاً للحرية، كان فصلاً في الخطاب كان فصلاً في الجواب وفي الثواب وفي العقاب، هزم الطاغوت مرغه التراب، بعد أن رحل جاءنا الجواب، هذا بعض من عماد، مفتاح الجنة في يديه كان منه وإليه، رضي الله عليه، أرضه في مقلتيه روحه في راحتيه، ألف رضوان عليه....الخ".

  • خمسة تواريخ مهمة في حياتك؟
  • ** تاريخ الوحدة العربية بين سورية ومصر، تاريخ وفاة "جمال عبد الناصر" ذلك التاريخ الذي أحسسني باليُتم، التاريخ الذي انضرب فيه المفاعل النووي العراقي وهنا أحسست بانقصام ظهري، والتاريخ الذي انتصرت فيه المقاومة مرتين.

    * من عشقك الأول والأخير؟

    ** الفن.. ثم الفن.