إذا قمتَ بزيارةٍ مفاجئة إلى مدينة "البوكمال" يوماً ما؛ وكنتَ من هواة التسوق وشراء الألبسة؛ فأنت أمام مجموعة خيارات لتختار المكان الذي ستشتري منه، وإذا أردْتَ تناول وجبة طعامٍ طازجة فالخيارات أيضاً متعددة، أما إذا كنت ترغب بتأمل "الفرات" فَلَكَ ما تشاء من مساحة هذا النهر العظيم، لكن بمجرد التفكير في العثور على أجهزةٍ كهربائية مستعملة أو أغراضٍ شخصية أو حتى منزلية وبأرخص الأسعار؛ فلا يوجد أمامك مكانٌ تتوجّهُ إليه إلا "المزاد".
ذلك المكان الشعبي الذي يلتقي فيه الناس من جميع الأعمار، حيث تتلاشى فيه الفروقات الطبقية بين الفقير والغني؛ وتتحطم على أثره انعكاسات الجشع الأزلي بين المُشتري وأغلب أصحاب المحلات الفارهة، مكانٌ وحيدٌ ليس سواه جمع عدداً من الباعة خلال فترة تجاوزت عشرين سنة وظلّوا هم أنفسهم يتقاسمون حلاوة ومرارة هذا المكان.
معظم أدوات منزلي اشتريتها مستعملة منذ زمنٍ طويل وبأرخص الأسعار، فوضعي المادي لا يسمح بشراء هذه الأدوات من المحلات، فالحمد لله على وجود مثل هذا المكان الذي يجعل الفقير يملك تلفزيوناً أو غسالة أو حتى براد
موقع eSyria قام بزيارةٍ إلى هذا المكان ودوّنا ما تحدث به بعض الشخصيات فكانت كالتالي:
السيد "علي حسن" أحد الأشخاص الذين يعملون في "المزاد" منذ أكثر من عشر سنوات؛ تحدث قائلاً: «منذ البدايات الأولى لوجود هذا "المزاد" وعلى الرغم من تغير مكانه عدة مرات خلال سنواتٍ مضت؛ إلا أن الباعة الموجودين هم أنفسهم الذين كانوا من مؤسسي هذا المكان ويتراوح عددهم نحو عشرة أشخاص، فنحن كباعة يعتمد عملنا على بيع وفتح باب المزايدة على البضائع التي نستلمها من أصحابها مقابل عمولة على كل عملية بيع تتم بواسطتنا، حيث تبدأ الجموع المحتشدة بالمزايدة على السعر إلى أن يرسو البيع على شخصٍ واحدٍ منهم؛ لكن لا يتم دفع المبلغ إلا بعد موافقة صاحب الغرض بقبوله بالسعر الأخير الذي وصلت إليه المزايدة؛ وإلا فإنه يتراجع عن البيع».
أما عن بدايات وتاريخ هذا المكان فحدّثنا الحاج "حسن البحر" وهو رجلٌ في العقد السابع من العمر؛ قائلاً: «خلال فترة التسعينيات كانت عمليات البيع والشراء تتم في الساحة العامة وسط المدينة من دون أن يكون لهؤلاء الباعة أيّ مكانٍ مُخصّص لهم، فكل فرد من أبناء المدينة أو الريف إذا أراد بيع أو حتى شراء أجهزة كهربائية أو أدوات منزلية كان يقصد هذا المكان للحصول على ما يريد. وبحلول عام /1998/م تم نقل مكان "المزاد" إلى سوق التّجار؛ حيث تم تخصيص عدة محلات داخل قيصرية (عبارة) ليزاولوا عملهم هناك، وفي عام /2005/م وبعد أن تم إخراج هؤلاء من محلاتهم لتوسعة سوق التّجار، لم يبق لهم أيّ مكان؛ إلى أن قام أحد الباعة القديمين في "المزاد" باستئجار المكان الحالي والذي هو عبارة عن مساحة من الأرض يحيط بها سورٌ من جهاتها الأربعة ويتوسطها بابٌ من الحديد يُفتح في الساعة الثامنة صباحاً ويُغلق في الساعة الثانية من بعد الظهر؛ حيث تم توزيعها بينهم بعد تقسيمها إلى (بسطات) مقابل أن يدفع كل شخص حصة من الأجرة».
وعن سبب تسمية هذا المكان بـ"المزاد"؛ أجاب قائلاً: «جاءت هذه التسمية من كلمة (المُزايدة) أي أن يدفع كل شخص يريد شراء شيءٍ ما مبلغاً أكثر من الذي سبقه، وهكذا إلى أن تتوقف هذه المزايدة عند سعرٍ معين. وباعتبار هذا المكان هو الوحيد الذي تُباع فيه الأشياء بهذه الطريقة؛ فقد سمّيّ بـ "المزاد"».
أما عن تطور حركة البيع والشراء في هذا المكان ونوعية البضائع التي تباع فيه؛ فتحدث إلينا السيد "تيسير الجاسم" أقدم شخص يعمل في "المزاد" قائلاً: «تضاءل دور "المزاد" في خدمة أبناء المدينة للحصول على احتياجاتهم بشكلٍ كبير عما هو في الماضي، فخلال السنوات العشرة الماضية كانت البضاعة التي تُباع بواسطتنا قيّمة وجيدة أيضاً؛ لكنها تباع بسعرٍ زهيد، الأمر الذي ساهم في تنشيط حركتي البيع والشراء، فأغلب أصحاب تلك البضائع هم من المُغتربين في دول الخليج؛ فبعد عودتهم لزيارة أقاربهم كانوا يحملون معهم كل شيء جديد أما القديم والمستعمل فيبعثون به إلى "المزاد" للتخلص منه وبيعه بأيّ ثمنٍ كان، وقد شملت تلك البضائع مختلف حاجات المنزل من أجهزة تبريد وغسالات وأفران غاز وغرف نوم والأجهزة الكهربائية المختلفة، وبفضل ذلك كان دخلنا اليومي يتجاوز /500/ ليرة. أما في الوقت الحالي فقد تحوّل المكان إلى سوقٍ هزيل لبيع أجهزة الخلوي المستعملة فقط؛ وقلما تجد بضاعة أخرى كما في الماضي، فكل مرتادي هذا المكان يأتون إما لبيع أو شراء جهاز خلوي، وهذا الأمر تسبّب بتقليص حجم "المزاد"».
وخلال وجودنا في "المزاد" حدّثنا السيد "طلال عبيد" وهو من زبائن المزاد قائلاً: «في كل صباح أتواجد هنا عسى أن أظفر بغرضٍ جيد للبيت، لكن كما يبدو لا يوجد غير أجهزة الموبايل، وأذكر في إحدى المرات أنني اشتريت غسالةً اوتوماتيكية بسعرٍ مغرٍ جداً، وبفارق ثلاثة أضعاف عن سعرها الحقيقي وهي موجودة في منزلي حتى الآن».
وشاركنا الحديث أيضاً أحد مرتادي المزاد وهو السيد "سليمان الأعرج" كما يحب أن يسميه الناس بهذا الاسم؛ لأنه يتّكئ على عكازة أثناء المشي؛ حيث قال: «معظم أدوات منزلي اشتريتها مستعملة منذ زمنٍ طويل وبأرخص الأسعار، فوضعي المادي لا يسمح بشراء هذه الأدوات من المحلات، فالحمد لله على وجود مثل هذا المكان الذي يجعل الفقير يملك تلفزيوناً أو غسالة أو حتى براد».
وأمام باب "المزاد" صادفْنا السيد "شعلان المحيميد" يخرج وهو يتأبّط تلفزيوناً صغيراً؛ وعند سؤاله عن سبب وجوده؛ أجاب: «أتيتُ إلى هنا لأبيع هذا التلفزيون القديم وأشتري بدلاً عنه واحداً أكبر وأحدث، فقد أرسل لي أبني الموجود في دولة "الكويت" مبلغاً من المال وطلب أن أجدد أثاث المنزل وقد بدأتُ بهذا التلفزيون كما ترى، لكن للأسف لم أستطع بيعه لأن جميع الموجودين منشغلين بالأجهزة الخلوية، وسوف أعود في يومٍ آخر».
أما خارج سور "المزاد" وعلى الرصيف المجاور فكان السيد "كمال عبد الرزاق" وهو رجلٌ في الأربعين من عمرهِ يقف أمام بضاعة متنوعة ومتناثرة على مساحة ضيقة وبجوارهِ طفله الصغير يُرتبها بتأنٍ، وعندما سألناه أجاب قائلاً: «لا يوجد مكانٌ داخل "المزاد" لعرض بضاعتي المستعملة؛ كما أنني لستُ مضطراً لدفع أجرٍ شهري مقابل حجز (بسطة) في الداخل، فثمن كل ما تراه لا يتعدى /1500/ ليرة، حيث تأتي هذه البضاعة من دول الخليج وهي موجودة ضمن حقائب كبيرة ومقفلة ولا يجوز لنا فتحها، بل نشتريها من أصحابها كما هي دون أن نعرف ما بداخلها، فأحياناً يحالفنا الحظ بأشياءٍ قيّمة وأحياناً أخرى تكون الأمور سيئة، لكن كيفما كانت نوعيتها فنحن نربح عند بيعها».