من وقت لآخر سنجد العديد من الأشخاص الذين يعيشون في الظلام ويسعون جاهدين لإشعال شمعة تنير دربهم لإضاءة دروب الآخرين، كثيرون هم في كافة مجالات الحياة بدءاً من أصغر مهنة وانتهاءاً بأعلاها...
ولكن قلائل هم الأشخاص الذين يبحثون عن شمعتهم في وقت مبكر من حياتهم وهذا مافعلته "عبير حاتم" عندما قررت السفر إلى خارج القطر لمتابعة مابدأت به وبغض النظر عن معاناة الغربة إلا أنها ما زالت تنتظر تلك اللحظة التي تعود فيها إلى أحضان وطنها وأهلها.
الغربة تصقل الشّخصيّة وتزيد الثقة بالنفس لقد تعلمت أنّ لكلّ مشكلة حلّ وتعمّقت في نفسي المقدرة على التّعاطي مع الحياة بجدية أكثر
موقع eLatakia التقى "عبير حاتم" التي تزور أهلها قادمة من "فرنسا" خلال إجازتها السنوية حيث حدثتنا عن ذكرياتها التي لم تنساها يوما وكيف توجهت إلى "فرنسا" وقالت: «تثير كلمة "ذكريات" في نفسي مجموعة من الصور المتجاورة بدءاً من بيت ريفيٌ بسيط في قرية "سدّ بللورة" على طريق (كسب ـ البسيط) ووالدان طيّبان كان همّهما الأوّل والأهمّ هو التّحصيل العلمي العالي لأبنائهما الستّة وخمسة أخوة سبقني بعضهم إلى الدّراسات العليا والبعض الآخر ما زال في بدايتها، لتصل ذكرياتي إلى جامعة "دمشق" حيث كانت دراستي الجامعية في كليّة "التّربية" حتى تخرجت منها عام (1998 م) ومن ثم إلى عام (2000م) عندما بدأت حياتي العملية كمعيدةٍ في قسم "علم النفس" في كلية "التربية" بجامعة "تشرين".
ولمدّة ثلاث سنوات قضيتها بين أعمال تدريسيةٍ وأعمالٍ إدارية ومن ثمّ كان السّفر حين صدر قرار إيفادي إلى "فرنسا" للحصول على شهادتيّ "الماجستير" و"الدكتوراه" في اختصاص (علم النّفس اللّغوي) وبعد الخضوع لدورةٍ تعليمية للّغة الفرنسية لمدّة تسعة أشهر حيث اجتزت اختبار مستوى اللّغة بنجاح وقتها تقرّر موعد السّفر بعدها مباشرة ومن ثم سافرت إلى فرنسا في عام (2004م) وذلك مع بداية العام الدراسي وحصلت على شهادة الماجستير بعد أقلّ من عامين دراسيين وبدأت التحضير لأطروحة الدكتوراه في نفس الجامعة في مدينة "ليون" حيث ستتمّ مناقشة أطروحتي نهاية العام الدّراسي الحالي.
يبحث موضوع الأطروحة (أثر غياب اللّغة كوظيفة معرفية في تطوّر البنية الأخلاقية عند الطّفل الأصمّ وهي دراسةٌ مقارنة بين مستوى التّطور الأخلاقي بين الأطفال الصمّ في "سورية" وفي "فرنسا")».
وعن سبب اختيارها هذا الاختصاص في "علم النفس" قالت "عبير": «يبحث علم النّفس اللّغوي في اللّغة كجانب من الظّاهرة السّلوكيّة البشرية كما يبحث في العمليات النّفسية التّي تُكتسب من خلالها اللّغة البشرية ويهتمّ بتحديد طبيعة اللّغة ووصفها كظاهرة نفسيّة وبكيفية تعلّم اللّغات ودراستها.
إنّ علم النّفس اللّغوي هو علم بينيٌ يتكامل فيه جانب اللّغة مع جانب علم النّفس ويتطلّب إلماماً بمجالات التّربية والتّعليم وآليات الجهاز العصبي والدّماغ وتقنية الذّكاء الاصطناعي، إنّ انتماء علم نفس اللّغة إلى فروع علم النّفس المعرفي ودراسة تأثير الوسط المحيط في إمكانية هذا التطوّر وذلك في سياق مقارنة واقع الطفل الأصمّ في سورية مع واقع الطفلّ الأصمّ في "فرنسا"، و ما دفعني لاختيار هذا البحث بالذّات هو وجود الكثير من الأبحاث في مجال التطّور الأخلاقي عند الطّفل العادي في كلّ أنحاء العالم والنّدرة البالغة للأبحاث التّي تربط الإعاقة السّمعية ونقص اللّغة بمستوى التطوّر الأخلاقي عند الأطفال الصمّ.
ونحن في سورية بأمسّ الحاجة للعمل بجدّية وعمق في مجال واقع الصم والبكم لتحسين وضعهم تعليمياً وتربوياً وبشكلٍ عام يمكننا القول أنّ الإلمام بعلم النّفس والاطّلاع على مبادئه يساعد النّاسَ على التّفكير في أفعال الآخرين واكتشاف مبرّراتها وبالتّالي فهمهم والتّعاطي معهم بموضوعية .
كما يساهم المختصّون في فروع علم النفس بتقديم دراساتٍ تجريبية للسّلوك في ميادين مختلفة وتقديم شروحٍ وافية لظواهر سلوكية بشرية (كالجريمة أو التسرّب المدرسي، التفوّق، الإعاقة، إلخ...) ترسم هذه الدراسات في النّهاية حدود المجتمعٍ وملامحه وتعمل على حلّ مشكلاته وترميم عثراته».
أخبرتنا "عبير" أنها كانت تخطط لاستكمال دراستها خارج القطر منذ أن كانت طالبة في الجامعة عن ذلك أضافت بالقول: «بعد التخرج بسنة تقريباً تقدمت لمسابقة المعيدين الصّادرة عن وزارة التّعليم العالي وتمّ اختياري مع مجموعة من المتقدّمين بعد خضوعنا لعدد من الاختبارات والامتحانات الكتابية والشّفهية (كانت المرة الأولى التي يتمّ فيها اختيار معيديّ كليّات التّربية على أسس أخرى إضافةً لمعدّل درجات التّخرّج)، حيث استمرّت الامتحانات التّحريرية والشّفهية لمدّة ثلاثة أيّام تضمّنت اختبارات شاملة في مجالات التّربية والتّعليم وعلم النّفس والثّقافة العامة واللّغة العربية وأضيفت درجات المرشّحين في هذه الاختبارات إلى معدّلات تخرّجهم وتمّ الانتقاء تبعاً لمتوسطّات الدّرجات النّهائية، كما خضع جميع المتقدّمين للتّعيين في كلّيات التّربية لاختباراتٍ نفسية تقيس قدرتهم على القيام بوظيفة مدرّس محاضر في الجامعة».
أما عن وضع الطلاب السوريين الموفدين إلى "فرنسا" ضمن اتفاقية ثقافية علمية معروفة الشروط حدثتنا" عبير": «من خلال تجربتي يمكنني القول أن الطّالب السّوري الموفد ينعم براتبٍ جيّد ويتلقّى العلوم كالطّالب الفرنسي حيث تتاح أمامه فرص البحث العلمي والحصول على المراجع والكتب والدّوريات من خلال المكتبات الجامعية أو المراسلات عن طريق الجامعة مع المصادر اللاّزمة لتأمين المراجع بالإضافة إلى التّسهيلات الجمّة في هذا المجال كاستعمال الانترنت المجّاني وبسرعة فائقة تمكنّ الشّخص من تحميل كتابٍ بآلاف الصّفحات خلال بضع دقائق وتوفّر الكتب والمكتبات ووجود مؤسسة خاصة تنظّم أمور الطلاّب غير الفرنسيين وذلك بالتّواصل المستمرّ بين الطلاّب وأساتذتهم من جهة والجهات التي أوفدتهم من جهةٍ أخرى وتطلب منّا ومن أساتذتنا المشرفين تقديم تقارير دورية عن سير أبحاثنا ودراستنا.
أمّا بالنّسبة للعلاقات مع الطّلاّب الآخرين ومع الأساتذة فهذا يعود إلى الصّفات الشّخصية لكلّ منا وإلى قدرته على التّأقلم والتعلّم السّريع بالإضافة إلى اللّغة الفرنسية كعامل أساسي في التّفاعل والتّقارب وتكوين الصّداقات مع الآخرين».
ورغم مرارة الغربة وقسوتها إلا إنها مفيدة في بعض الأمور وعن ذلك تقول "حاتم": «الغربة تصقل الشّخصيّة وتزيد الثقة بالنفس لقد تعلمت أنّ لكلّ مشكلة حلّ وتعمّقت في نفسي المقدرة على التّعاطي مع الحياة بجدية أكثر».
تملك "عبير" الكثير من المشاريع التي تخطط لها بعد إنهاء دراستها في "فرنسا" حيث أخبرتنا عنها بالقول: «أوّل ما أنوي فعله بعد انتهاء الدّراسة هو وضع نفسي تحت تصرّف جامعة "تشرين" ومتابعة ما بدأتُه في مسيرة البحث العلمي في اختصاصي ومن ثمّ السّعي لنشر كتابٍ يتضمّن الجديد في مجال علم النّفس اللّغوي بالإضافة إلى بعض التّرجمات التّي تدور في فلك عالم الصمّ والبكم».
ختمت "عبير حاتم" حديثها بكلمة وجهتها للمرأة السورية حيث قالت: «لن آتي بجديد إن قلتُ أنّ المرأة تشكّل عصباً هامّاً في بنيان المجتمع وخاصّة فيما يتعلّق بالعملية التّربوية في المجتمع ككلّ إنّ التّحدّي الأكبر الذي تواجهه المرأة السّورية حالياً هو خلق التّوازن بين حياتها العلمية والعملية وبين حياتها الشّخصية حيث نجد المرأة السّورية (غالباً) تنجح في واحدة وتفشل في الأخرى ومن أجل صناعة هذا التّوازن ينبغي العمل على التّوازن الدّاخلي وتطوير الذّات وتحديد الأولويات وإدارة الوقت و تنظيم الجهود».
الجدير بالذكر أن "عبير حاتم" من مواليد (1975م) من قرية "بللورة" الواقعة على بحيرة "بللورة" على طريق "كسب- البسط" في محافظة "اللاذقية".