يقولون أن "حلب" هي "أثينا الشرق" الأمر الذي لطالما جعلنا نتباهى بهذه العبارة ونكتبها في كل مكان، ولكن هل فكر أحد يوما السبب أو أصل هذه العبارة؟.

"حلب"... واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم إن لم تكن أقدمها... لطالما سحرت هذه المدينة كل من زارها، ولطالما جعلت من يزورها مدمنا عليها ومحبا لها وعاشقا لكل ما فيها من أماكن وآثار وشعب وسكان وأوابد...

عندما تعرفت على خطيبي لأول مرة، لم أفهم معظم كلامه رغم معرفتي اللغة العربية إلا أن تفسير ما كان يقوله لي باللهجة العامية كان صعبا

هذا السحر تمثل في قيام عدد ممن عرفوا المدينة بالكتابة عنها وتسليط الضوء عليها في كل المحافل. قد يكون هذا الأمر عاديا في حال كان هذا الشخص من مدينة "حلب" أو من "سورية" أو حتى من الوطن العربي. ولكن ماذا لو كان الشخص العاشق لمدينة "حلب" أوروبيا؟

أوليفيه سالمون

ثلاث رسائل دكتوراه لثلاثة أجانب تناولت كلها مدينة "حلب" من لهجتها إلى طبخها إلى من زارها من رحالة. قمنا نحن في موقع "eSyria" بالقيام باستطلاع رسائل الدكتوراه هذه التي تعد هنا وتقدم في بلدان أوروبية مختلفة، والتقينا أصحاب هذه الرسائل أو من ساعدهم لمعرفة أكثر عن المواضيع التي أعدوها ولماذا أعدوها وكانت اللقاءات التالية...

**لكي يعرف الأوروبيون "حلب"...

جوليا شتراوز

يقول السيد "أوليفيه سالمون" القادم من "فرنسا" لإعداد رسالة دكتوراه عن "حلب":

«تتحدث رسالة الدكتوراه التي أقوم بإعدادها حاليا عن "حلب" في أدب الرحالة خلال الفترة العثمانية". يعتبر هذا الموضوع موضوعا كبيرا خصوصا أن الفترة تمتد لتشمل ما يزيد عن الأربعمائة عام هي الفترة التي كان فيها الاحتلال العثماني في سورية. قمت لأجل هذا بجمع كل النصوص التي كتبها الرحالة الأوروبيون عن مدينة "حلب" من تلك المتعلقة بأدب الرحالة إلى تلك التي تتحدث عن الطبيعة الجغرافية مرورا بالقواميس والمراجع التي تتناول هذه المدينة».

ويتابع بأن اللغات التي تعامل معها هي: اللغة الانكليزية، الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، الاسبانية، الهولندية والبرتغالية؛ حيث يتابع معلقا عن أهمية العمل الذي قام به بالقول:

«تكتسب هذه الأطروحة أهمية وبعدا إضافيين يتمثل في توفيرها لمرجع سيكون مهما لكل الباحثين وكل المهتمين بتاريخ "حلب" مثل المؤرخين الذين يريدون معرفة ما كتب عن "حلب" خلال سنة معينة أو من كاتب معين. أردت من خلال رسالة الدكتوراه هذه معرفة الكيفية التي اكتسبت بها مدينة "حلب" العلوم والمعارف على مدار السنين، وكيف تعلم أهلها وعلموا القادمين والزائرين إليها هذه المعارف خلال الأربعمائة سنة التي كانت فيها تحت النفوذ العثماني».

وقد أتى السيد "أوليفييه" أول مرة إلى مدينة "حلب" في العام /2004/ لكي يكون مدرسا للغة الفرنسية في "معهد تعليم اللغات" في الجامعة وبموجب اتفاقية موقعة بين "جامعة حلب" وجامعة "السوربون الفرنسية" حيث يعلق عن هذا بالقول:

«آنذاك، كنت لا أعرف أي شيء عن مدينة "حلب" إلا أنني أحببتها أثناء إقامتي فيها. وعندما عدت لاحقا إلى "فرنسا"، قررت أن أقوم بعمل يجعل الناس الذين هم موجودون في "أوروبا" على معرفة أكبر بها. وعلى اعتبار أنني خريج كلية الآداب فقررت أن أكتب رسالتي الدكتوراه عن أدب الرحالة الذين زاروا هذه المدينة».

ويضيف بأن الرسالة حاليا هي في طور اللمسات النهائية حيث يستطرد بالقول:

«سوف تنتهي رسالتي "إن شاء الله" [وقد قالها بنفس الطريقة التي يقولها أهل "حلب" من حيث المعنى والمصطلح] في العام /2010/. حاليا، فقد وصلت إلى بداية القرن العشرين ولم يتبق لدي إلا عشرون رحالة تقريبا حيث قمت خلال الفترة الماضية بتناول ما يزيد عن ثلاثمائة رحالة زار "حلب" خلال تلك الفترة».

ويوجه "أوليفييه" الشكر إلى السيد "حسين المدرس" على المساعدة الكبيرة التي قدمها له حيث يقول:

«قدم لي السيد "حسين" مكتبته التي كانت غنية بالمراجع والأبحاث القيمة إضافة إلى مساعدته هو نفسه في رسالتي التي أقوم بها. قمت وأقوم بالعديد من النشاطات الثقافية في كل زيارة لي إلى مدينة "حلب" وذلك بمساعدة السيد "حسين المدرس". على سبيل المثال قمنا أنا وهو بكتابة عدة كتب منها كتاب يتحدث عن "القنصلية الفرنسية" الموجودة في مدينة "حلب" منذ قرون والتي كانت في الوقت نفسه مفيدة لي وساعدتني في رسالة الدكتوراه التي أعدها. قمت أيضا مع الأستاذ "حسين" بإنشاء موقع (www.aleppoart.com) والذي يحوي كل النشاطات التي قمنا بها من مسرحيات قمنا بتقديمها أو كتب قمنا بتأليفها أو محاضرات أو معارض أو غيرها من النشاطات التي قمنا بها على مدار السنين الماضية، علاوة على وضع كل ما تم ذكره عنا في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية. وقد أصبح هذا الموقع بمثابة أرشيف لنا».

ويتنقل السيد "أوليفييه" ما بين "حلب" و"فرنسا"تحضيرا لرسالة الدكتوراه التي أعدها حيث يتمنى الانتهاء منها بأسرع وقت ممكن حيث يقول:

«أود إنهاء رسالتي الدكتوراه بسرعة في "فرنسا" لكي أعود وأعيش في مدينة "حلب"، لا أعرف ما قد أعمل به حيث أريد فقط العيش بها سواء أعملت أستاذا فيها أو حتى سائق سيارة أجرة!»

إلا انه يتراجع عن فكرة قيادة سيارة الأجرة "لخطورتها" كما يقول ضاحكا، إلا أنه يتابع بجدية بأنه يرغب في العودة بعد انتهاء رسالة الدكتوراه لديه إلى مدينة "حلب" ليعيش فيها ويختم بالقول:

«أحاول من جهتي تسليط الضوء على مدينة "حلب" وحتى الكتب التي قمنا بتأليفها أنا والأستاذ "حسين" قمنا بترجمتها إلى كل من الإنكليزية والفرنسية إيمانا منا بأهمية اطلاع العالم على هذه المدينة وأهميتها».

"شلونك"، "اشبك"، "اصطفل"!!

"شلونك"، "اشبك"، "اصطفل" هي بعض مفردات اللهجة العامية التي تزخر بها مدينة "حلب" ويتحدث بها سكانها طوال الوقت. بالنسبة للعديد في سكان مدينة "حلب" فهي كلمات مألوفة ودارجة. وبالنسبة لمن خارجها فهي كلمات صعبة الفهم للوهلة الأولى، ولكن كيف تكون بالنسبة لمن هم ليسوا عرباً؟

«عندما تعرفت على خطيبي لأول مرة، لم أفهم معظم كلامه رغم معرفتي اللغة العربية إلا أن تفسير ما كان يقوله لي باللهجة العامية كان صعبا».

تقول "جوليا شتروتز" وتتابع: «لأجل هذا قررت جعل رسالة الماجستير لدي تتمحور حول اللغة العامية العربية والتي لاقت صدى جيدا من قبل الأساتذة المشرفين عليّ في "ألمانيا"».

و"جوليا" هي فتاة ألمانية الجنسية تحمل درجة الماجستير في علم اللغات، جاءت إلى سورية في منحة على حساب الحكومة الألمانية لكي تدرس اللهجة العامية "الحلبية" ولتقوم بإعداد رسالة الدكتوراه عن ذلك الموضوع! وعن سبب جعل رسالة الدكتوراه الخاصة بها عن اللهجة العامية فأجابت:

«خطيبي يدرس الآن في ألمانيا وهو من مدينة "حلب"، عندما تعرفت إليه واستمعت إلى لهجته العامية قررت أن أحاول فهمها خصوصا أنه لا يوجد كتب وقواعد تدرس موضوع اللغة العامية وإنما تعلم اللغة الفصحى فقط. كتبت رسالة الماجستير في هذا الموضوع في فترة لم تكن طويلة بل كانت في حدود ثلاثة أشهر حيث قال الأستاذ المشرف على رسالتي إن الموضوع مشوق ومثير للاهتمام ويمكن كتابة رسالة دكتوراه موسعة في هذا الموضوع فقررت المتابعة فيه. وكان العائق الوحيد هو قلة عدد السوريين الموجودين في ألمانيا فقررت القدوم إلى "سورية" لدراسة اللهجة عن قرب».

وقد قضت "جوليا" شهرا في العاصمة السورية "دمشق" والباقي في مدينة "حلب" وتضيف:

«تتمحور رسالتي حول استخدام الأزمنة والأفعال في اللهجة العامية السورية "الحلبية" حيث أنوي دراسة لهجة شمال سورية حاليا. ووزعت حتى الآن حوالي /100/ استمارة تتضمن أسئلة حول استخدام الأفعال والأزمنة في الكلام باللهجة العامية الحلبية عن طريق أسئلة منها ما هو ذو اختيارات متعددة ومنها ما هو متعلق بكيفية صياغة الأفعال ضمن أزمنة محددة. كما أحضرت جهاز تسجيل للصوت وقمت بعمل تسجيل لأشخاص تكلموا معي باللهجة العامية الحلبية، وسوف أحلل النتائج لدى عودتي إلى "ألمانيا"».

وفي سياق منفصل، ولدى سؤالنا عن رأيها في سورية والشعب السوري، تجيب:

«ليست هذه أول زيارة لي حيث جئت سابقا قبل عامين، الناس هنا لطفاء للغاية وكرماء جدا وبشكل أكثر من الألمان. وأحببت سورية ومدينة "حلب" للغاية».

وقد تخرجت "جوليا" من اختصاص علم اللغات - قسم اللغة الفرنسية وتجيد إضافة إلى لغتها الألمانية: الانكليزية، والفرنسية، والقليل من اللغتين الإسبانية والسويدية إضافة إلى اللغة العربية التي كان يجري بها الحوار.

وقد كان معها السيد "غسان جرعتلي" والد خطيبها والذي قال لنا:

«من أجل دراسة اللهجة الحلبية بشكل موسع، قمنا باصطحابها إلى منطقة "حلب" القديمة، المنطقة التي هي أصل اللهجة الحلبية. وقد تحدثت مع العديد من الناس من كافة فئات المجتمع، ويشرف على رسالتها من الجانب السوري الدكتور "ظافر يوسف" من أساتذة "جامعة حلب"».

وتبدي "جوليا" إعجابها الكبير وتتمنى لو تستقر يوما في "حلب" هي وزوجها المستقبلي.

الطبخ الحلبي...

أما الشابة "صوفي آن سوفيجران" فقد أعدت رسالة الدكتوراه الخاصة بها عن "الطبخ الحلبي" وتقول عن هذا الموضوع:

«قمت بعمل رسالة الدكتوراه في مدينة "حلب" عن "الممارسات والعادات الغذائية التي يمارسها جيل الشباب في حلب"، وكانت تجربة عظيمة جدا لي حيث كان الناس هنا متعاونين جدا ولم يبخلوا بالمساعدة تجاهي. عشت في "حلب" لمدة عامين كنت أعمل فيها مع "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" و"الحرم الجامعي الفرانكفوني الرقمي"».

وتضيف بأنها كانت تدرس تطور الأكل وانعكاسه على الشعب الحلبي حيث كيف انتقل من مفهوم تناول الوجبات الغذائية من تناولها مع العائلة ضمن مواعيد محددة إلى أن أصبحت وجبات جاهزة وفي مواعيد غير ثابتة ومع الآخرين خارج المنزل أو في الأماكن العامة وبعيدا عن العائلة.

وقد عاصرت الشابة "زينة يكن" من "الحرم الجامعي الفرانكفوني الرقمي" الشابة "صوفي" في أثناء إعدادات الأخيرة لرسالة الدكتوراه الخاصة بها حيث تقول عن هذا الموضوع:

«كانت "صوفي آن" شابة اجتماعية ودبلوماسية وتستطيع التأقلم بسرعة ضمن أي جو تكون فيه، وكانت تعيش مع عائلات حلبية وتحتك مع كل الشرائح المجتمع الحلبي حيث تعلمت الكثير من الطبخ الحلبي والطهي، وتعلمت صناعة الحلويات أيضا، واستطاعت أن تقوم بصناعة "مربى الورد" و"العجة" وقد حاولت هي التواصل مع كل الجاليات المقيمة في مدينة "حلب" لاقتناعها بأن "الأكل يعكس الحضارة"».

وتختم بالقول بأن سبب اختيار مدينة "حلب" من قبل الشابة "صوفي آن" كان بسبب أنها كانت مدينة ذات مجتمع منغلق على نفسه عاصر الانفتاح خلال الفترة الأخيرة وبشكل سريع مما جعل من المناسب الإطلاع حول تأثير هذا على العادات السلوكية الخاصة بهذا الانفتاح.

"حلب" هي أثينا الشرق... أما السبب في تسميتها كذلك، فكما أن أثينا كانت عاصمة الحضارة والثقافة في الغرب القديم، كانت "حلب" هي عاصمة الحضارة والثقافة في الشرق القديم.