كانت للحمل في منطقة "الرقة" تقاليد وأعراف لا يمكن تجاوزها، أو التغافل عنها من قبل المرأة نفسها، فهي بمجرد شعورها وإحساسها بأنها حامل، كما يقول أهل "الرقة"، فإنها تخفي مثل هذا الأمر ولا تُشعر به أحداً، حتى إلى أقرب الناس لها، كأن تكون أمها أو أختها أو أم زوجها، لأنّ مثل هذا الأمر يعتبر عيباً ونوعاً من الحياء عند المرأة الرقية خصوصاً، والمرأة الريفية بشكل عام.. وإذا هي اضطرت إلى كشف هذا السر، فإنها لا تبيح به لأحد إلاّ بعد مرور أربعة أشهر على الأقل، وإذا هي باحت به قبل ذلك اعتبرت امرأة (غشيمة أو خفيفة) حسب تعابير المنطقة، أي أنها حمقاء و(هبلة). أما زوجها في العادة هو آخر من يعلم بحملها، لذلك وإلى وقت ليس ببعيد عن زمننا هذا كانت المرأة في عموم مناطق الفرات و"الرقة"، تبقي حملها سراً حتى تكبر بطنها، أو يأتيها أعراض الوحم كالقيء على سبيل المثال.. وقد ظل هذا الأمر حالة قائمة حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين.

وكان زوج المرأة الحامل لا يعاملها معاملة خاصة، ولا حتى أهلها، فهي تظل تعمل في أعمالها العادية، دون أي تذمر أو كسل كي يبقي سر حملها غير معروف لدى الآخرين. ومن خلال الأحاديث التي ترويها النساء الطاعنات في السن، نجد أنه كلما عدنا إلى الوراء يتبين لنا أنّ أغلب العائلات من الوسط الاجتماعي العادي والفقير لا تتفطن إلى حمل المرأة، إلاّ حين تفاجئها الولادة.. وقد حدثني أحد الأصدقاء، وهو يعمل في حقل التنقيب الأثري، أنه بينما كان في عام /1989/ عائداً من العمل برفقة بعض الأصدقاء الألمان، سألته مديرة التنقيب من الجانب الألماني إنْ كان هو من ولادة "الرقة" أم لا؟ قال: «قلت لها يا سيدتي أنا من مواليد عام/1950م/، وقد ولدتني أمي فوق هذه الروابي التي تباري نهر "البليخ" من جهة الشرق». قال: «وأشرت إلى هذه الروابي القريبة من الطريق العام، فنظرتْ إلى يمينها فلم تر سوى أكمات جرداء وأرض قاحلة ظلت تبتعد شيئاً فشيئاً عن النظر حتى اختفت في الأفق البعيد كلياً»، ثم قال: «شرحت لهما كيف أنّ والدتي وضعتني أثناء قيامها بحصد موسم القمح والمنجل في يديها»، لذلك فالمرأة في ريف "الرقة"، وفي جميع أرياف العالم العربي عاشت مأساة واحدة، فهي إن تذمرت من العمل أثناء حملها حتى في الأشهر الأخيرة، اعتبرت امرأة كسولة ولا تصلح أن تكون ربة منزل، وغير قادرة على تعمير بيت وتكوين عائلة.. وروى لي صديق عن حالة سمعها عن والده الذي هو الآخر سمعها عن جده، أنّ شاباً في نزلهم "الكوجري" في أطراف المراعي في منطقة الشمال الرقي، عندما تزوج وحملت امرأته بعد خمسة أشهر، شاهده أهل النزل يأكل معها على سفرة واحدة، ومن حينها لم يلقِ عليه أحد السلام، لا من أهله ولا من عشيرته، فما كان منه إلاّ أن شد الرحال ليلاً وهرب هو وزوجته مع القوافل المارة إلى ديرة "حلب". أما المرأة عند العائلات الغنية فلها وضع آخر، فهناك من يخدمها ويساعدها، ولكن يظل هناك جزء مشترك من طقوس الحمل مع العائلات الفقيرة والعادية. وما أن ينتهي الشهر التاسع من الحمل، حتى تبدأ الولادة وتبدأ معها طقوس أخرى جديدة تولد مع ولادة المولود.. وتقاليد أو طقوس الولادة غير معقدة وهي بسيطة، فمع بدء الطلق تأتي والدتها ووالدة زوجها وجاراتها، ومع تدرج حالة الطلق تتولى إحدى النساء المتمرسات على حالة الولادة الإشراف عليها، والجلوس بالقرب منها، وإذا كانت الولادة صعبة وتعسرت الحالة، تأمرها المشرفة بوضع قطعة قماش في فمها وتعض عليها بقوة، أو تجر شيئاً مربوطاً على عامود إن كانت الولادة في خيمة عربية، أو تمسك حبلاً طرفه الآخر مربوطاً على الجدار المقابل لها، إن كانت الولادة في بيت حجري، حيث تشده المرأة نحوها بقوة مما يساعدها على بذل جهد أكبر يسهل عليها خروج المولود، وفي هذه الحالة تكون (الولاّدة) جالسة خلف المرأة لتشدها إليها برفق، فإذا تألمت المرأة كثيراً من شدة الطلق والعسر، أمرنها النسوة بالاستنجاد بـأولياء الله الصالحين، كأن تقول: «بالله يا ويس القرني» أو أنها تستنجد بـ(طاسة ويس القرني)!!، وقد تنذر (لويس أو لغيره) نذراً تفي به بعد الولادة، وقد يكون هذا النذر خروفاً أو شاة، إنْ كانت من بيت غني. وبعد تيسر وسهولة أو صعوبة الولادة، لا بد أن يخرج المولود من عالمه الداخلي الذي هو رحم أمه، إلى النور وهو يصرخ فتتلقفه (الولاّدة) وتقوم فوراً بقطع صرته، وقد تقوم بهذا العمل عجوز أخرى لديها خبرة واسعة في هذا العمل، وتسمى (الصرارة) عند أهل "الرقة". ثم تقوم الولاّدة بلف المولود بقطعة قماش من البيت.. عند ذلك تبدأ حالة جديدة، فإذا كان المولود ذكراً تبدأ النسوة بإطلاق الزغاريد (الهلاهل)، حيث يعم الخبر في النزل أو في القرية، فتقدم التهاني لوالد الطفل الذي يصبح في نظر الجميع فحلاً، أما إذا كانت بنتاً فلا تُسمع الزغاريد ولا حتى التهاني، والجميع يُلقي اللوم على المرأة لأنها بنظر القوم هي المسؤولة عن ذلك. وتكون التهنئة لها فقط لكونها تخلصت من الآلام والأوجاع، أما البنت المولودة فلا تهنئة لها لأن سلاح البنت الدموع، والدموع بنظر المجتمع البدوي والريفي وحتى في مجتمع المدن الكبرى لا تحمي الحمى.

شرحت لهما كيف أنّ والدتي وضعتني أثناء قيامها بحصد موسم القمح والمنجل في يديها

طعام النفساء: بعد الولادة مباشرة تقدم لها النسوة طعام (الحريرة)، وهي عبارة عن سائل من القمح المطحون مع السمن العربي تشربها وهي ساخنة. وفي بعض المناطق من ريف "الرقة"، كانت النساء تمارس بعض الطقوس أثناء أكل المرأة لطعامها، تتضمن حركات يديها وقراءة بعض الكلمات غير المفهومة.

ولادة متعسرة

وعلى أثر ولادة الطفل لابد للأهل من اختيار اسم له، وعادة يقوم الأب أو الجد باختيار اسم الصبي، أما إذا كان المولود صبية فلا أهمية لذلك، الأم أو الجدة من الأب هن اللواتي يخترن اسماً لها. أما الصبي فممنوع عليهن اختيار اسماً له. وكان أهل الريف وأهل المدينة قديماً، يطلقون على أولادهم في الأغلب أسماء الآباء والأجداد وقد تستمر هذه التسمية لأكثر من قرن من الزمان.. وفي اليوم السابع تقوم الأم والجدة بقراءة سورة الفاتحة، والطفل في سريره الخشبي، وقد تستعيره من عائلة أخرى، ثم تقوم العائلة في هذا اليوم بتلبيس الطفل ثياباً جديدة، وتقوم الأم والجدة بثقب أذنه اليمنى، ويعلقن فيها حلقة من الفضة عند فقراء القوم، ومن الذهب عند الأغنياء، أما البنت فتثقب شحمتا أذنيها وتعلق بهما قرطين أو حلقتين، كما تعلق الأم على صدر المولود تميمة على شكل سن الذيب لستره من العين والسحر، كما تقوم الأم بتعليق قطعة قماش على صدره لحماية ثيابه من اللعاب. وعندما يبلغ الطفل أربعين يوماً من عمره، تلبسه والدته ثياباً جديدة أو نظيفة، وتمهده وذلك بلف جسمه بقطعة قماش تسمى (المهاد)، ثم تربط المهاد بحبل قصير يسمى العصابة، وتقوم والدته بتسليمه لبنات الجيران وصبايا الحي، حيث يباركنه ويقبلنه، وتقوم الفتيات بتعليق (الخمسة) فوق عصابة الطفل، وهي عبارة عن حلية، قد تكون من الفضة أو من الذهب، وأحياناً تكون من مادة حجرية زرقاء اللون على شكل حلية تقي الطفل من العين.. وفي هذه الفترة من عمر الطفل تقوم الأم بمداعبة الطفل، وتقوم بالغناء وهو ما يسميه أهل "الرقة" القدماء في بداية القرن الماضي بـ(هدهدة الطفل) في المهاد كي ينام، وأغاني الهدهدة كثيرة ومتنوعة في كلماتها وايقاعها مثال ذلك قولها:

نام يوليدي نام أذبحلك فرخ الحمام

الباحث محمد العزو

وبعض الأغاني تتضمن المديح بجمال الطفل، وكيف سيكون غداً شاباً يانعاً مثل أجداده، ومثل الأبطال العظماء. وعندما يبلغ الوليد عامه الأول يحلقون شعر رأسه، لاعتقادهم أن شعره ينتمي إلى عالمه الداخلي، ثم يقومون بوخزه بالإبر لتقي عصب جسمه، وكذلك يقومون برش جسم المولود بالملح لكسب جسده نوع من المناعة، ثم يدهنون جسمه بمادة الزيت، وهو نوع من المناعة والتعقيم.

وبعد أن يبلغ الطفل عامين من العمر، تفطمه أمه عن الرضاعة من حليب ثدييها، حيث أنها تقوم بتلطيخ حلمتي ثدييها بمادة (الصبر) المرة، بحيث إذا أراد الطفل الرضاعة من ثدي أمه ومكنته منه، يحس بطعم المرارة فيلفظه مباشرة، ورويداً رويداً ينسى الطفل الرضاعة فيتعود على الطعام الذي تقدمه له والدته. وغالباً يعيش الطفل مدة الرضاعة على لبن أمه، وإذا غرّز ثديي أمه من الحليب، فهي تضطر إلى إرضاعه من حليب جارتها أو صديقتها، وهذا الأمر خلق مشكلة اجتماعية، بحيث يحرّم الزواج بينه وبين أخوته ممن رضعوا من ثدي واحد.