تعتبر أسواق "حلب" القديمة (المدينة) الأولى في طليعة كبريات أسواق المدن القديمة أمثال أسواق "اسطنبول وبغداد والقاهرة وفاس"، من حيث التخصص البضائعي السلعي والاتساع المدهش بالإضافة إلى بهاء عمرانها وجمال هيئتها وإن كانت أسواق "اسطنبول وفاس" تشبهها من حيث السقف والعقود ولكنها أقل منها طولاً.

وتبقى أسواق "حلب" الوحيدة في الشرق التي لم تفقد طابعها الأصلي، فحتى اليوم تقوم بتخديم المدينة المتسعة بشكل كامل ومريح، إذ يقدر طول أسواقها بأكثر من خمسة عشر كيلو مترا وتعود إلى القرن الثالث عشر، وتمتد من باب "إنطاكية" غرباً وسوق "النيرب" شرقاً بطول750م وعرض 350م، وهي على شكل شوارع وأسواق متوازية ومتعامدة، تضم تسعة وثلاثين سوقاً، ويختلف كل سوق عن الآخر بالبضاعة التي يحويها.

تتميز أسوق المدينة بأنها أطول شبكة أسواق مسقوفة في العالم، كما تتميز أيضاً بأن هناك لكل مهنة سوق خاصة بها، ويعتبر سوق "اسطنبول" من أشهر الأسواق العربية المتخصصة في تجارة الأقمشة حيث كانت الأقمشة تصنّع محليا وبشكل يدوي كـأقمشة النول، والتطريز، وأقمشة الأغباني، وكل هذه الأصناف كانت تتمركز في سوق اسطنبول

والحكاية اليوم عن سوق اسطنبول والجولة التي قام بها eAleppo في السوق..

وجيه عقاد

"سوق اسطنبول" هو أحد أسواق المدينة القديمة في "حلب" حيث لا يمكن فصله عن باقي الأسواق لا من الناحية العمرانية، ولا حتى تاريخياً، والحديث سيكون عما يتميز به هذا السوق من غيره.

هناك سوقان يسميان بهذا الاسم هما: (سوق اسطنبول الجديد) الذي يشغل أحد أهم مدخلين للمدينة من الجهة الشمالية ويقع قرب باب "الجامع الكبير" القبلي، ويمتد لمسافة طويلة ومغطى بشكل كامل مثل أي سوق قديم من أسواق "حلب" القديمة، وتتفرع منه أسواق كثيرة مثل: "سوق الذهب وسوق العطارين" وبنهايته "المحمص"، ويسمى أيضاً بـ"سوق النسوان" وهو السوق المفضل لتبتدئ به السيدات زيارتهنّ للمْدينة.

أغلب تجارة السوق هي الأقمشة ومشتقاتها إضافة إلى "النوفوتيه" بأنواعها، ويتميز بوجود كافة مستلزمات العروس وتجهيزاتها من ملابس وإكسسوارات وفساتين الأعراس، ويبلغ تعداد المحلات فيه (91) محلاً.

أما سوق "اسطنبول" القديم (العتيق): فهو يقع بين سوق "العطارين" وسوق "الخجا" ويأخذ شكل الحرف (L) ضلعه القصير يصب في "سوق العطارين" والطويل في "سوق خان النحاسين" وتعرف دكاكينها بتجارة الأقمشة النسائية، وللسوق اسم طريف تطلقه العامة وهو سوق "تفضّلي" وتعود هذه التسمية لكثرة عبارات الترحيب التي يطلقها التجار لجلب انتباه السيدات المتجولات في السوق.

محمد حمّامة

ومن الجدير بالذكر أن دكاكين هذا السوق لا تُغلَق بل إن السوق هو الذي يغلق مساء من مدخليه وتبقى بضائع التجار وحاجاتهم على ما هي عليه حتى صباح اليوم التالي، ويبلغ تعداد المحلات فيه (38) محلاً.

وخلال جولتنا الميدانية كان لقاؤنا الأول مع أقدم التجار في السوق الجديد وهو السيد "مصطفى خندقاني" (تاجر خيوط) والذي حدثنا عن معرفته التاريخية بالسوق قائلاً: «كل ما أعرفه عن تاريخ السوق هو حقبة الترميم حيث رمم في عهد الملك "الظاهر بيبرس"، ثم رممه الأتراك وسمي (بسوق اسطنبول) نسبة إلى مدينة "اسطنبول" التركية التي تحوي العديد من الأسواق القديمة التي تشبه أسواق "حلب" وبالأخص هذا السوق، وتتنوع المحال في هذا السوق وأبرزها تجارة الخيطان، إضافة إلى كل مستلزمات النساء وخصوصا مستلزمات العروس فهنا النساء يجدن كل ما يحتجن فهناك النوفتيهات، الألبسة والزينة ومحال المجوهرات، إضافة إلى الأقمشة المميزة والمتنوعة التي يحويها السوق القديم والتي تناسب جميع الأذواق وذلك لشمولها على جميع أنواع الأقمشة».

وعما يحويه السوق القديم وكل ما يميزه عن غيره من الأسواق حدثنا السيد "وجيه عقاد" الذي يعد من أشهر وأقدم تجار الأقمشة في السوق قائلاً: «تتميز أسوق المدينة بأنها أطول شبكة أسواق مسقوفة في العالم، كما تتميز أيضاً بأن هناك لكل مهنة سوق خاصة بها، ويعتبر سوق "اسطنبول" من أشهر الأسواق العربية المتخصصة في تجارة الأقمشة حيث كانت الأقمشة تصنّع محليا وبشكل يدوي كـأقمشة النول، والتطريز، وأقمشة الأغباني، وكل هذه الأصناف كانت تتمركز في سوق اسطنبول».

وعن أنواع الأقمشة والاختلاف الحاصل فيه بين القديم والحديث أضاف السيد "عقاد": «بالنسبة لخيوط الأقمشة كان لها العديد من المصادر فمثلاً الحرير مصدره "الشام" و"الموصل"...، ولذلك اشتهرت أسماء الأقمشة ببلد المصدر فمثلاً قماش "الموصلين" مصدره مدينة "الموصل" في العراق، قماش "الداماشقو" مصدره مدينة "دمشق" ومختلف الأصناف... وأشهر الأقمشة الموجودة في السوق هي: "البروكار- الحرير – الأغباني– التطريز– الداماشقو– الموصلين– القطن– التريكوز– البروتور- الأصواف والفرش".

وحتى الآن لازالت المهن والصناعات تتوارث بشكل واضح في الأسواق القديمة لتحافظ هذه الاسواق وعبر الفترات المتلاحقة على خصوصيتها وتشكل استمرارا للشكل الأول الذي انطلقت عليه وعن هذا يقول السيد "محمد حمامة" (تاجر أقمشة): «بالنسبة للمصالح والمهن فقد تأثرت بالتطور من حيث الصناعة والموديل، أما السوق فهو لم يتغير، فلايزال حتى الآن يحافظ على طبيعته العمرانية وتخصصه المهني، والمحال في أغلبها تتوارث حيث يرثها الأبناء عن الآباء وأقصد بالتوريث توريث المهنة لأن المحلات تعود ملكيتها للأوقاف. وسوق "اسطنبول" منذ أكثر من (400) سنة هو سوق للأقمشة فقط وهذا بالتحديد مايميز أسواق المدينة في "حلب" فإنك لن تجد مثلاً في سوق القطن أحداً يبيع غير القطن، وهكذا في سوق العطارين، وسوق الخيش، سوق الذهب، ...»

رغم التطوات المتلاحقة والكبيرة التي مرت بها "حلب" كعاصمة اقتصادية لسورية والتوسع التجاري والعمراني الكبير فيها إلا أن الأسواق القديمة لازالت تحافظ على نشاطها الاقتصادي، في هذا الصدد يضيف السيد "حمّامة": «بالنسبة لحركة البيع جيدة جداً، وهي الآن أفضل بكثير من السابق لأنها استطاعات أن تواكب حركة الإزدهار والتطور التي تطرأ على جميع المهن الموجودة، بالإضافة الى كونها مقصداً رئيسياً للسياح الذين يقصدونها بغرض السياحة والتجوال فيها والتعرف على معالمها الأثرية الخالدة، وأكثر ما يشتريه السياح هو الأشياء النادرة والقديمة كـ "الكلابيات المطرزة – الشماغ – العقال ..." بالإضافة الى الشرقيات.

وبعد هذه الجولة.. ستلاحظ الحركة الكثيفة للمتسوقين حيث بإمكان المتسوق الحصول على كل ما يريد وقضاء جميع حاجاته، ناهيك عن المتعة الخاصة التي يشعر بها كل من يجول في هذه الأسواق الرائعة، فهي تشعرك بالأصالة العربية وتناغم الناس فيه يصلك صلة مباشرة بحكايات ويوميات وذكريات الأجداد لتبقى الحياة متصلة برابط وثيق.

علماً أن المعروف عن أسواق "حلب" قدرتها على المحافظة على قدمها بكل تفصيلاته وأيضاً قدرتها على أن لا تكون فقط مزارا تاريخيا أو أثريا بل البقاء كحركة اقتصادية ضخمة بصبغتها التاريخية المميزة.