في عام 13هـ/634م تمركزت الجيوش العربية الإسلامية بين "القدس" و"بيت جبرين" بقيادة القائد العربي "خالد بن الوليد"،حيث تم دحر جيوش الأعداء البيزنطيين في موقعة "أجنادين" على ارض فلسطين، واستطاع المسلمون تحقيق النصر تلو الآخر في مواقع عديدة حتى دخلوا دمشق، لكن المعركة التي قررت مصير سورية كانت تلك التي جرت بين العرب والبيزنطيين، في موقعة "اليرموك" عام15هـ/636م، وانتهت بانتصار العرب على جيوش بيزنطة التي قادها الإمبراطور "هرقل"، وهكذا سيطر الفاتحون العرب المسلمون على كامل سورية التي أصبحت ولاية عربية، وعادت الأرض إلى مالكيها العرب الأصليين (عن محاضرات د. علي بو عساف).
بدأ تنظيم الدولة العربية الإسلامية في عهد الخليفة الراشدي "عمر بن الخطاب"، ثم استمر في عهد الأمويين، حيث قسمت سورية إلى خمس مناطق (جُند) تديرها حكومات عسكرية وهي: "شرقي الأردن"، "فلسطين"، "دمشق"، "حمص"، "قنسرين". وفي عام 18هـ/639م يصبح الخليفة "معاوية" حاكماً على سورية بعد أخيه "يزيد" الذي كان الحاكم الأول لمناطق "دمشق" و"حوران" حتى "فلسطين" وسجل انتصاراً على أساطيل بيزنطة. وفي عهد الخليفة "هشام بن عبد الملك" /106-125هـ/724-743م عرفت منطقة جبل العرب كباقي أنحاء سورية والدولة الإسلامية ازدهاراً عمرانياً، ثقافياً، اقتصادياً (تجارة، مشاريع زراعية، ورش صناعية....)، كما تظهر الكتابات المنقوشة بالكوفية، وكذلك أطلال القصر المحصن (خربة البيضا) أو (القصر الأبيض) الواقع في منطقة "الرحبة" شرقي الجبل في وسط البادية السورية. كل ذلك كان نتيجة لاستقرار الحكم بعد انتشار الدين الحنيف، حيث كانت البلاد لا تزال متأثرة كلياً بالنفوذ اليوناني والروماني والبيزنطي الذي استمر ما يقارب ثمانية قرون، لكننا لم نجد حتى الآن مبانيَ ومنشآتٍ من العهد العباسي.
أهمية مدينة "صلخد" وقلعتها:
ذكرت "صلخد" في كتاب العهد القديم وضمن أكثر من إصحاح باسم "سلكه" أو "صلخه"، وسماها العرب الأنباط، كما سماها العرب المسلمون صرخد، وقال "ياقوت الحموي" في "معجم البلدان": "صرخد" بلد ملاصق لبلاد "حوران" من أعمال "دمشق" وهي قلعة حصينة، وولاية حسنة وينسب إليها الخمر. قال الشاعر:
ولذ كطعم الصرخديّ تركته بأرض العدا من خشية الحدثانِ
في عام566هـ/1171م أسس "صلاح الدين بن أيوب" السلالة الأيوبية، وبسط سلطته على دمشق، ثم التفت إلى قتال الفرنجة وانتصر عليهم في معركة "حطين" غربي "بحيرة طبريا" عام583هـ/1187م، وعندما فتح الأيوبيّون منطقة الجنوب بدؤوا يفكرون بتجديد بعض القلاع وتحصينها لمواجهات محتملة مع قوات الفرنجة، ومنها قلعة "صلخد" الواقعة جنوب "السويداء" بحوالي 35ك.م.والتي كانت قد بنيت في زمن العرب الأنباط، ثم تم تجديدها وترميمها في العهود اللاحقة، حيث أدرك الأيوبيون أهميتها لكونها تشكل مركزاً عسكرياً استراتيجياً متقدماً بالنسبة لدمشق، فلم تتنامَ وتكبر إلا في نهاية القرن الحادي عشر م، حيث تولى إدارتها وحكمها العديد من الشخصيات التاريخية المتميزة منها: "تاتوش"، "فالوس"، و"تاكين"، "الأتابك"، "طوغتكين"، "فخر الدين كمشتكين"، "أتونتاش"، "معين الدين أونور"، "مجاهد الدين بوظان الكردي" وولده "محمد"، وذلك بين عامي451هـ/1078م و533هـ/1160م.
مع تولي "صلاح بن يوسف" السلطة في دمشق عام548هـ،/1176م. بدأت في سورية مرحلة جديدة من الازدهار، تاركة آثارها المتميزة على صلخد، فبعد معركة "حطين" ضم المدينة وقلعتها إلى سلطته، وأصبح ابنه "الفضل علي" حاكماً على دمشق، وقام بتطوير بناء قلعة صلخد خلال ثلاثة أعوام 565-567هـ، /1193-1195م، واستخدمها كمركز مقاومة خلال الأعوام الستة التالية، ثم أصبح القائد "زين الدين قراجا الصالحي" حاكماً للقلعة، تلاه "العادل أبو بكر" 576-577هـ،/1204-1205م ثم ابنه "ناصر الدين يعقوب" 579هـ،/1207م.
عرفت صلخد عهداً من الازدهار في ظل سلطة القائد "عزالدين أيبك المعظمي" عام586هـ/1214م. عندما تنفذ الأيوبي المعظم "عيسى" بواسطة والده "العادل أبو بكر" في القلعة ليوكلها إلى أستاذه (استادار) القديم "أيبك" الذي استطاع أن يطور بناءها بشكل واسع جداً ما يقارب نصف قرن من حكمه الذي استمر حتى عام 619هـ/1247م، وكان أيبك أحد أقوى قادة المملكة الأيوبية، واستحق العديد من المراتب والألقاب.
إن معظم النقوش الكتابية العربية في مدينة صلخد كان مصدرها من أبنية القلعة المختلفة ويعود تاريخها إلى سنوات 591-593-603-604هـ/1219-1221-1231-1232م، تتحدثان عن تشييد مبان تجارية.
بعد ذلك قام الحاكم الأيوبي "الصالح نجم الدين أيوب" عام621هـ/1249م بتوسيع وتحصين قلعة صلخد، ثم توارث الحكم فيها "طوران شاه بن الصالح أيوب" في نفس العام، وفي عام 622هـ/1250م نقل حكمها إلى "العزيز محمد"، وأخيراً حصل أخوه "الظاهر غازي" عام632هـ/1260م على مدينة صلخد كإقطاعة له، والذي نقل حكم القلعة أيضاً في العام نفسه إلى القائد المغولي "كتبغا"، حيث كان قد أجبره على القيام بتهديم تحصيناتها بنفسه.
وبعد طرد المغول من سورية خضعت القلعة لحكم السلطان المملوكي "الظاهر بيبرس" بين عامي632-649هـ/1260-1277م، حيث نجد الكثير من الكتابات والنقوش العربية التي تمثل نحتاً نافراً لسباع ترمز إلى شعار السلطان، ويذكر المؤرخ المملوكي "العمري" المتوفى عام 721هـ/1349م الظاهر بيبرس كمشيد لقلعة صلخد.. والمؤرخ المعاصر له "عز الدين بن شداد" المتوفى عام 657هـ/1285م، يذكر أن الظاهر بيبرس عمل على ترميم مسجد الجمعة والعديد من المساجد في صلخد وضواحيها.
وبوفاة بيبرس انتقل حكم القلعة إلى ابنه "السعيد بركة خان" 649-651هـ/1277-1279م، ثم إلى سلطة السلطان "المنصور قلاوون" 651-662هـ/1279-1290م الذي قام بتعيين قائده "سيف الدين بسيطي" كحاكم لمدينة صلخد، وآخر كقائد للقلعة، ثم تعاقب على حكم صلخد وقلعتها العديد من الشخصيات كان منهم: "كتبغا المنصوري" 668-669هـ/1296-1297م، "شهاب الدين الحنفي"، "أيبك الحموي"، "أقوش الافرم" 681-684هـ/1309-1312م، حاكم حلب "قراسنقور المنصوري" 683-684هـ/1311-1312م، وأخيراً "أقوش الأشرفي" المتوفى عام709هـ/1337م، والذي يذكر اسم القائد "إيداكين" كنائب للقلعة.
فيما بعد ظلت صلخد محتفظة بأهميتها لكونها مركزاً إقليمياً، ففي عام 712هـ/1340م، وخلال فترة حاكم دمشق القوي "تانكيز" بُنيَ فيها حمامٌ وبركة مياه، وفي العامين التاليين أخذت صلخد أهميتها خلال فترة حكم السلطان "الناصر محمد" وذلك كمنفى لابنه "أحمد"، وخلال الفترة نفسها نصادف فيها آخر شاهد كتابي محفوظ يمثل نقشاً جنائزياً يخص "علياً بن قاضي صدر الدين بن أحمد الزعري" المتوفى عام720هـ/1348م.
ونجد بعد ذلك التاريخ أن المؤرخين المعاصرين لا يكادون يذكرون صلخد. فكانت قلعتها تعتبر كحصن للاحتماء خلال مرحلة حكم السلطان المملوكي "جقمق الدوّارط، و"المظفر أحمد" 793هـ/1421م، وفي وصف دولة المماليك عند "خليل الزهراوي" الذي كان قائداً في صلخد بين عامي 810-811هـ/1348-1349م، والذي يمكن اعتباره كشاهد عيان حيث يقول: (مدينة صلخد الشهيرة بموقعها المتقدم، فوق مرتفع يجعل مدخلها صعباً جداً، محتفظة بحصن مبني من الحجارة السوداء القاسية جداً، ومنطقة نفوذها تمتد على أكثر من مئة قرية).
وفي عام 889هـ/1517م، فقدت مدينة صلخد أهميتها الاستراتيجية، فالأراضي المملوكية تم ضمها إلى الإمبراطورية العثمانية وهجرت منطقة جبل العرب لعدة قرون، وأهملت صلخد وقلعتها، وها هو قنصل بروسيا في دمشق يصفها عندما زار المنطقة في منتصف القرن التاسع عشر: (صلخد بلد خراب لا أنيس فيه). ثم هاجر إليها السكان الحاليون من شمال سورية ولبنان وفلسطين، وعمرت صلخد ومنطقتها من جديد كباقي مناطق جبل العرب.
أهم الآثار الإسلامية في جبل العرب (عن مجموعة محاضرات للأستاذ حسن حاطوم، ومجموعة محاضرات للدكتور علي بو عساف):
قلعة صلخد: تقع فوق مرتفع صخري يرتفع عن سطح الأرض المجاورة حوالي 500 متر وحوالي 1800 متر عن سطح البحر، وتتميز ببنائها المحكم وتصفيح صخورها بالجدران الحجرية المبنية بشكل شاقولي مائل قليلاً، وذلك لمنع تسلّق الأعداء، وكانت مجهّزة بخندق يلتف حولها بعمق يتراوح بين 15-20 متراً وعرضه كذلك، وقد تضمنت العديد من المباني منها: مسجد، أبراج، حصون، تخللتها الصالات والمقاصير والحمامات، ومستودعات المؤن والذخيرة، والمهاجع والمساكن للحاشية والخدم، وخزانات المياه، والإسطبلات وغيرها، وزخرفة حجارتها ونقشت بأشكال السباع وعناقيد العنب والكتابات العربية المتعددة الأشكال.
وتعود الجذور التاريخية لقلعة صلخد إلى العرب الأنباط (القرن الأول ق.م)، الذين جابهوا الجيش السلوقي بقيادة "أنطيوخوس" الثالث عشر. وانتصروا عليه، واستطاعوا تحصين هذا الموقع وبناء بعض المرافق الضرورية فيه ثم استخدمه الرومان والبيزنطيون من بعدهم، لكن المظهر الحالي للقلعة يعود إلى عهود الفاطميين والأيوبيين والمماليك، حيث بدأ ببنائها وتجديدها السلطان الفاطمي "المستنصر بالله" 427-487هـ/1036-1094م. وعندما تفاقم الخطر الفرنجي صار من الضروري حماية الجناح الجنوبي لبرّ الشام، وحينها تحوّل مسرح بصرى القديم إلى قلعة، وكانت قلعة صلخد موقعاً مرتبطاً بها، حيث لم يتمكن الفرنجة من أخذها أو الاقتراب من بر دمشق الشام، وبعد أن كانت القلعة مستقراً للسلاطين والملوك والأمراء والقادة، أصبحت بعدئذ منفى للمغضوب عليهم من كبار الشخصيات في أيام المماليك وخلال العهود التي تلت.
مسجد صلخد الكبير(الجمعة): بني هذا المسجد في العهد الأيوبي 631-631هـ/1232-1233م، في عهد حاكم صلخد "عز الدين أيبك المعظم"، وبقي منه الآن مئذنته البالغ ارتفاعها 12متراً، وقد بنيت بالحجر البازلتي الأسود في طابقها السفلي ثم بالحجر المائل للحمرة في القسم العلوي، ثم زيّنت بشريط كتابي نفذ فوق حجارة من الرخام الأبيض بالخط النسخي الأيوبي، وعلى الوجوه الستة لبناء المئذنة، بدأت بالبسملة وبآية قرآنية: (بسم الله الرحمن الرحيم "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" صدق الله العظيم)، ثم ذكر اسم باني المئذنة عز الدين أيبك. وقد شيّدت على قاعدة حجرية سداسية الأضلاع، حيث لا يوجد شبيه لها في العالم الإسلامي، وقد تمّ ترميم هذا المسجد في عهد الملك "الظاهر بيبرس" 658-676هـ/1260-1277م، بعد الخراب الذي حصل فيه زمن المغول.
وأخيراً عاش في صلخد الطبيب الشهير "أبو العباس موفق الدين أحمد بن القاسم بن يونس ابن أبي القاسم بن خليفة الخزرجي السعدي" نسبة إلى الصحابي الشهير "سعد بن عبادة"، والملقب بـ"ابن أبي أصيبعة" (598-668هـ). أكثرمن ثلث قرن، وأكمل كتابه الشهير "من عيون الأنباء في طبقات الأطباء" وتوفي في صلخد ودفن فيها، وقد اختار نصوص هذا المجلّد وقدم لها وعلّق عليها الأستاذ "قاسم وهب"، وأصدرته وزارة الثقافة عام 1997 في أربعة أجزاء. حيث بدأ افتتاحيته بثلاثة أبيات من قصيدة المرحوم الشاعر "سلامة عبيد" في قصيدته عن قلعة صلخد:
ربضت بين موحشات البراري / معـقـلاً فـوق معقل جبّـــار
مثلما يربض الرهيب من الأسد / ليحمي عرينه والصحاري
قلعـــة لا لزخرف شيّـدوهــــــا / بل ليــوم مجلجــل هـــدّار.