على الرغم من أن الطواحين المائية لم تعد مستخدمة على نطاق واسع في العصر الحديث، إلا أنها لا تزال تمثل جزءًا مهمًا من التراث الثقافي والحضاري للشعب السوري، وتنتشر الطواحين المائية عادةً على ضفاف الأنهار والمسطحات المائية عموماً، ومنها منطقة الجزيرة.

نكهة قمح وحكايات باقية

كانت المطحنة الوحيدة والأولى التي أسست في بلدة "اليعربيّة"، وقدمت خدماتها لعدد من القرى والمناطق التابعة والقريبة من البلدة، ولا تزال راسخة في وجدان الكثير من أهالي المنطقة رمزاً لبلدتهم خاصة، وجامعة لذكريات وقصص جميلة عمرها بعمر المطحنة وأكثر.

حافظت المطحنة على العطاء والطحن حتّى بداية التسعينيات، فتوقفت عن العمل بالاعتماد على ضخ المياه إليها من النهر، فقمنا بإضفاء إضافات حديثة عليها، لتستمر بالإنتاج، فالأهم أن تبقى هذه المطحنة كرمز للبلدة والأسرة المالكة لها، كونها تحظى بخصوصية وقيمة كبيرة

قبل ثمانين عاماً

والمطحنة لم تندثر بشكل كامل، بل هناك اهتمام من قبل الأبناء والأحفاد بها، كونها إرثًا عظيمًا، والحفاظ عليها مسؤولية وأمانة، حسب ما قال "عمر عبد العزيز"

ذكريات الاجتماع في المطحنة

"عمر" يجد في المطحنة ذكريات وقصصًا كثيرة، يشم منها عبق الماضي الجميل لأسرته، فالمطحنة تحكي حكايا لم يمكن نسيانها أو تجاهلها، ويضيف في كلامه لمدونة وطن: «هذه مطحنة الأسرة، نقلت من الجد إلى الأب، من ثم للأبناء، كل من عاصرها وسمع عنها، يقدّر مكانتها، ويجل قيمتها، أوّل من أسسها جدي "حبيب عبد العزيز الدهمشي"، حصل ذلك قبل ثمانين عاماً وأكثر، لتكون المطحنة الأولى والوحيدة في بلدتنا وعلى مستوى منطقتنا، عملها كان من الصباح الباكر، حتّى غروب الشمس، في هذه المطحنة تفاصيل مجتمعية جميلة جداً، لذلك بنيت علاقات اجتماعيّة واستمرت حتّى يومنا هذا، من خلال زيارات المطحنة، وحاليًا استقبل زوّارًا وضيوفًا في منزلي بشكل دائم؛ لأن جدي ووالدي رسخا علاقة اجتماعيّة مع أهالي المنطقة، هذه العلاقة هي أثمن عطايا المطحنة».

"عبد العزيز" أضاف: «كانت المطحنة تتحمل ضغطًا كبيرًا وبشكل يومي من أهالي القرى المجاورة، البعيدة والقريبة، لذلك كان الكثير يضطر للنوم في الربعة؛ لأنه لم يتمكن من طحن حبوب قمحه، فيضطر إلى البقاء والنوم، لم يكن الأمر مزعجاً، بقدر ما هي فرصة لكسب معارف جدد ومن مناطق أخرى، كما تحولت الربعة إلى فسحة للمناقشة في قضايا تهم الناس، مع مناقشة سبل حل المشكلات، وتجاوز التحديات، وفيها تطورت العلاقات الاجتماعيّة، لتصل إلى أبعد درجاتها».

آثار باقية للمطحنة منذ تأسيسها

المطحنة رمز للبلدة والأسرة المالكة لها

وعن آلية عمل المطحنة تابع عبد العزيز حديثه: تمّ حفر مساحة واسعة بالطول والعرض بالقرب من مكان المطحنة، بعد الحفر يتم وضع الأدوات في الأماكن المخصصة لها، فالبئر تكون في أعلى منتصف المطحنة، ويجب أن تمتلئ بالماء من النهر الجاري، والفراشة الحديدية تكون في أعلى البئر لاستقبال الماء بقوة، لذلك يتضح لنا بأن أهم نقطة في عملية الطحن، الماء المتدفق من النهر بقوة إلى الفراشة، ولا تحتاج إلا إلى عامل واحد.

بالمختصر يدخل الماء إلى الطاحونة عبر قناة أو مجرى مائي، ويسقط على مجارف العجلة المائية، ما يؤدي إلى دوران العجلة المائية وتنقل حركتها إلى حجر الرحى عبر نظام نقل الحركة فيدور الحجر العلوي فوق الحجر السفلي، ما يؤدي إلى طحن الحبوب التي توضع بينهما وأخيراً يسقط الدقيق المطحون في صندوق أو وعاء مخصص لذلك.

عن مصير المطحنة حالياً، يقول "عمر": «حافظت المطحنة على العطاء والطحن حتّى بداية التسعينيات، فتوقفت عن العمل بالاعتماد على ضخ المياه إليها من النهر، فقمنا بإضفاء إضافات حديثة عليها، لتستمر بالإنتاج، فالأهم أن تبقى هذه المطحنة كرمز للبلدة والأسرة المالكة لها، كونها تحظى بخصوصية وقيمة كبيرة».

أصبحت المطحنة مكانا للتسلية ومعرفة أخبار المنطقة

إلى جانب إنشاء المطحنة في البلدة، فقد قام "الدهمشي" بالتوازي بإنشاء مضافة أو ربعة، تستطيع استيعاب الزوار، ويمكن ان يستريحوا فيها او حتى ينامون ليلاً إذا داهمهم الوقت في المطحنة .. يعني كانت بمنزلة الفندق المجاني، مع تقديم كل واجبات الضيافة كما أوضح "عمر عبد العزيز"

الثمانيني "محمود عبد السالم" من أهالي ريف بلدة "اليعربية" يتحدث عن تجربته مع مطحنة بلدته فيقول: «كانت المنطقة تعتمد بالدرجة الأولى على محصول القمح، والطحين أولوية وحاجة يومية في ذلك الوقت، لذلك كانت المطحنة بمثابة الإنجاز، عاصرتها وعشت جانبها لفترة طويلة من الزمن، فيها أجواء اجتماعيّة جداً رائعة، بعضها خالدة حتى يومنا، مشاهد الناس وهي تتوافد للمطحنة، باقية في ذاكرتنا» ويختم حديثه مؤكداً أن الطواحين المائية كانت مصدرًا رئيسًا لطحن الحبوب في الماضي، ما يسهم في توفير الغذاء للسكان كما كانت جزءًا هامًا من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العديد من المناطق المجاورة، حيث أصبحت مكاناً للتسلية والعمل وتبادل الأحاديث والأخبار وحل المشاكل.

مدوّنة وطن esyria بتاريخ 25 تموز 2025 زارت المطحنة وأجرت اللقاءات السابقة.