أبدع الفنان الراحل "ممدوح قشلان" في رسم تفاصيل "دمشق" وهو الذي أحبها وظل وفياً لها حتى رحيله، فضلاً عن تميزه ومنذ بداياته بشخصية فنية حيث حافظ بتجربته الفنية الطويلة على الأصالة من جهة ومواكبة الفنون المعاصرة من جهة أخرى حتى أصبح أحد عمالقة الفن التشكيلي السوري على مستوى العالم.

في سطور

مدوّنة وطن تواصلت مع "سعد القاسم" إعلامي وناقد حائز على دبلوم دراسات عليا في الفنون الجميلة، حيث استفاض بالحديث عن سيرة الفنان الراحل بقوله: «ولد الفنان المعلم "ممدوح قشلان" في حي سوق "ساروجة" الشعبي في "دمشق" القديمة عام 1929، لكن الصور الأكثر رسوخاً في ذاكرته كانت من منطقة "كيوان" على أطراف "دمشق"، حيث انتقلت عائلته للسكن هناك بعد بضع سنوات تزامنت مع دخوله إلى المدرسة، وفي مدرسة (التطبيقات المسلكية)، كان الطالب على موعد مع الفنان الرائد "عبد العزيز نشواتي" الذي تعلم على يديه أول مبادئ الرسم، كما تعلم منه الكثير من سلوكيات الحياة، غير أن الحدث الذي حدد خياراته المستقبلية كان لقاءه بعد ذلك بسنوات بالفنان المعلم "محمود جلال"، وفي أواخر عام 1957 عاد "قشلان" وزميله الفنان المعلم "محمود حماد" من "روما" بعد أن أتما بتفوق دراستهما فيها وعينا معلمين للرسم في مدينة "درعا"، وخلال زيارة لمنزلهما هناك لفتت أعمالهما انتباه "بشير زهدي" الذي عرض عليهما إقامة معرض ضم لوحات زيتية إضافة إلى أعمال في الحفر والخزف، عرضت لأول مرة في معرض فني سوري، وإثر زيارة وزير التربية للمعرض قرر نقل "ممدوح قشلان" إلى "القاهرة" للاستفادة الأوسع من معارفه الفنية الجديدة، لتبدأ مرحلة ثرية جديدة في مسيرته الفنية».

تعرفت إلى الفنان "ممدوح" رحمه الله منذ انتقالي إلى مرسمي في "الطلياني" بالقرب من مرسمه "إيبلا" منذ ست سنوات وكنا نتبادل الزيارات باستمرار، وكان يزورني برفقة زوجته المحبة "نجوى نحاس" التي لم تفارقه يوماً لمدة ثلاثة عشر عاماً وكانت له سنداً متيناً، كان إنساناً ودوداً وليناً ومن أرقى الشخصيات وأكثرها وفاءً، شرفني بشهاداته في العديد من معارضي والكثير من الكلمات المحمولة بالحب والتمعن في أعمالي التي ستبقى وسام شرف لن أنساه ما حييت ولن يضاهيه أي تقدير

الدراسة الأكاديمية

ويتابع "القاسم" بقوله: «قبيل إتمام دراسته الفنية المتعددة الأوجه في "روما"، حيث درس التصوير والغرافيك ونحت الميدالية، بدأت مسيرة "ممدوح قشلان" تقدم عطاءها الفني على صعيد الإبداع الشخصي، وعلى صعيد العمل التعليمي، حيث عمل سنوات طويلة موجهاً للتربية الفنية في وزارة التربية، وأيضاً على صعيد العمل النقابي التشكيلي إذ كان من مؤسسي نقابة الفنون الجميلة، ونقيباً لها في فترة حافلة بالعمل، وفي كل من هذه المجالات كانت له حكايات وإنجازات، وقد لفتت لوحاته التي تقدم مشاهد البيئة والعمارة السورية الانتباه خارج "سورية"، وهو ما جعل مكتب "اليونيسف" في "دمشق" يحرص سنوياً على اقتناء مجموعة من البطاقات التي تحمل صور لوحاته لإرسالها كبطاقات تهنئة بقدوم العام الجديد.. ومن ثم قامت "اليونيسف" بطباعة عدد من لوحاته على بطاقاته الشهيرة لتوزع في جميل أنحاء العالم، وكانت المرة الوحيدة التي تطبع فيها المنظمة لوحات فنان سوري، وإحدى المرات النادرة التي تطبع لوحات لفنان عربي».

"الفنان الراحل مع الإعلامي "سعد القاسم" في افتتاح معرضه

تنوع العطاء

الفنانة "نور الكوا" مع الراحل

إلى جانب عمله الإبداعي، وعمله في التعليم، وعمله النقابي، يقول "القاسم": « قدّم "قشلان" الكثير من النصوص الفنية التي تتناول تجارب فنانين معاصرين، إضافة إلى تأليفه كتباً حول "لؤي كيالي" و"محمود جلال"، وكتاباً ثالثاً يرصد الحياة التشكيلية السورية خلال نصف قرن من خلال حوارات أجراها مع عدد من الفنانين الذين كان لهم حضورهم الفاعل على الساحة التشكيلية السورية، وفي المقابل تحتفظ ذاكرته بكثير من الحكايات التي تصف تفاعل المشاهدين خارج "سورية" مع أعماله.

تتوزع أعمال "ممدوح قشلان" اليوم في قصر الشعب، والمتحف الوطني بـ"دمشق"، ومتحف "دمّر"، ومتحف "حلب"، ومتاحف "بيروت" "سرسق"، "الجزائر"، "القاهرة"، "تونس"، "الرباط"، "فارنا"، "تيتوغراد" (مونتنيجرو)، "صوفيا"، "كابروفو"، "تارغوفيشت" (بلغاريا)، مدينة "ليل" الفرنسية، إضافة الى مجموعات خاصة.

زوجته والفنانة "نور" من عزاء الراحل

وبعد أكثر من مئة معرض فردي في أنحاء مختلفة من العالم، بقي "ممدوح قشلان" يتابع عطاءه الإبداعي في صالة "إيبلا" التي أسسها عام 1980 والتي كانت تتحول إلى مرسمه الشخصي خارج أوقات المعارض، وذلك حتى الأشهر الأخيرة من حياته، مكرساً حضوره الفاعل في الحياة التشكيلية السورية، بعد أن تكرّس اسمه منذ سنوات طويلة كواحد من أشهر أسمائها».

عن كثب

من جهتها "نور الكوا" فنانة تشكيلية تتحدث عن صفاته الإنسانية بقولها: «تعرفت إلى الفنان "ممدوح" رحمه الله منذ انتقالي إلى مرسمي في "الطلياني" بالقرب من مرسمه "إيبلا" منذ ست سنوات وكنا نتبادل الزيارات باستمرار، وكان يزورني برفقة زوجته المحبة "نجوى نحاس" التي لم تفارقه يوماً لمدة ثلاثة عشر عاماً وكانت له سنداً متيناً، كان إنساناً ودوداً وليناً ومن أرقى الشخصيات وأكثرها وفاءً، شرفني بشهاداته في العديد من معارضي والكثير من الكلمات المحمولة بالحب والتمعن في أعمالي التي ستبقى وسام شرف لن أنساه ما حييت ولن يضاهيه أي تقدير».

هوية دمشقية

وحول أعماله المميزة وما تعلمته منه تقول: «تشبه لوحاته إلى حد بعيد شخصيته، له هوية دمشقية متفردة يحاكي بها الإنسان وإنسانيته، وتكون شاهداً حاضراً على المجتمع وقضاياه، كان غنياً إلى حد بعيد بمجموعاته اللونية وما يغلب عليها من ضوء، صراحة وتفاصيل وعلاقتها المتينة مع خطوطه الهندسية المشغولة بعناية دوماً حتى بعفويتها أحياناً، هو من مؤسسي نقابة الفنون التشكيلية وله الكثير من الأعمال الأدبية من أقربها إلى قلبي كتابه "نصف قرن من الابداع"، هو آخر رواد الشام تعلمت منه النشاط والخصوصية واحترام العمل قبل أي شيء، فهو رحمه الله كان معطاءً وصبوراً ولديه من الشغف ما يبقيه ساعات أمام عمله وإن خانته عيناه أو قدماه كان يبصر النور من ألوانه».

أوسمة وتقدير

نشير إلى أن الراحل "ممدوح قشلان" رحل عن عالمنا بتاريخ الاثنين 29 آب 2022، نال العديد من شهادات التقدير الوطنية والأوسمة والجوائز، أقام 104 معارض في أنحاء شتى من العالم واشترى 15 متحفاً عالمياً من لوحاته، هو من مؤسسي نقابة الفنون الجميلة ونقيباً لها لعدة مرات، ومن مؤسسي الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب وعمل نائباً للأمين العام فيه، وعضو المجلس الدولي للمتاحف التابع لليونسكو حيث تم تنسيبه إلى عشرات الجمعيات الفنية دون طلب منه.