هل خفت أصوات المطارق بسوق النحاسين في دمشق، أما أن هناك حرفيون شباباً يزدادون إصراراً على متابعة المسيرة حفاظاً على هذه المهنة من الاندثار؟ أسباب مختلفة أثرت على النحاسة كغيرها من الحرف السورية التقليدية العريقة، منها ظروف الحرب الظالمة على سورية وقلة إقبال السياح والحصار الاقتصادي وهجرة أصحابها إلى أعمال أخرى. إلا أن أصوات المطارق في سوق النحاسين بجانب سوق المناخلية في شارع الملك فيصل، ما زالت ترن بلحنها الفريد في آذان الكثير من أبناء دمشق بقيمتها التاريخية والجمالية والمادية. فللأواني النحاسية قيمة مادية ترتفع مع الزمن لتشكل قيمة مضافة لهذا الإرث الفني الساحر، الذي يشكل ركناً من ملامح البيت الدمشقي. إن دلال القهوة والثريات والمناقل والمباخر والسيوف واللوحات تتحدث عن ذاتها في هذه البيوت العتيقة، كما تبهر الزائر إلى القصور والفنادق بتناغم أبدعته يد السورية.

عدنان تنبكجي شيخ الكار بالفنون النحاسية والتشكيلية وأمين سر هيئة مدربين حاضنة دمر المركزية للفنون الحرفية، أكد أن هذه الحرفة لا ترتبط بالزمن، فقد وجُد النحاس مع وجود الطبيعة، وأكثر من اشتهر في تصنيعه هم المسلمون في العصور الإسلامية المختلفة، كما تطورت الحرفة في بلدان أخرى، في مصر والمغرب والعراق. إلا أنه كان للسوريين الإبداعات القوية في هذه الحرفة سواء كان النحاس الأحمر الذي يستعمل لصنع الأواني وأدوات الطبخ وحفظ الماء والزيت لكون هذا النوع من النحاس لا يصدأ بفعل الرطوبة والسوائل إضافة إلى تصنيع التحف نظرا لبريقه الجاذب للناظرين، أو النحاس الأصفر الذي يستعمل في صناعة أدوات الزينة المختلفة من أجراس ومطاحن البن والشمعدنات والملاقط والثريات وغيرها الكثير.

يقول تنبكجي إن حرفة النحاسيات موزعة إلى اختصاصات فمنها التخطيط والرسم ومنها تنزيل الذهب والفضة أي تطعيم النحاس بهذين المعدنين. وهناك حرفيون مختصون بالتجويف وآخرون مختصون بالنقش، وهناك قسم صناعة الصب والسكب أي صهر النحاس وسكبه في قوالب تأخذ أشكالاً مختلفة، وهذا الفن يستخدم في تصنيع الثريات والأبديرات والأبلايك، وهي تطورات جديدة أضيفت إلى الحرفة التي يتزامن عمرها مع وجود الحضارات على الأرض السورية. ولكن فيما يخص الثريات، فقد وجدت مع وجود الإنارة في بداية القرن الماضي، وهناك زخارف عمرها أكثر من 400 سنة كانت مخصصة للشمعدانات والأواني النحاسية التي تستخدم لدى كبار الملوك والسلاطين. إضافة إلى الطاقة الإيجابية التي تأتي من النحاس وكانت سبباً آخر لاقتنائه في الكثير من البيوت وأماكن العبادة.

عدنان تنبكجي

تطورات الحرفة

حرفة عريقة

يصف الباحثون النحاس بالمعدن الحنون لكونه يتجاوب مع كل الفنون الأخرى والمعادن، فهو يخلط مع الذهب والفضة. وحالياً بحسب التنبكجي يوضع نحاس مع الحجر ومع الصدف ومع الخشب وخاصة في اللوحات بشكل متطور يدعى الترصيف، إذ يرصف بمحلول الذهب في حين كان قديماً موجوداً بما يسمى التكفيت، وهو وجود خيوط من الذهب والفضة داخل المنتجات المصنوعة من النحاس مثل الآيات القرآنية والتحف الفنية، وضمن الديكورات في القصور الملكية القديمة وفي قاعات المؤتمرات، وفي البيوت الضخمة، حيث يتباهون فيها مستفيدين من قيمته المادية العالية والتاريخية، وكذلك لكونه معدناً لا يتأثر بعوامل الطبيعة.

وبحسب الأجداد العاملين في هذه الحرف، يعتبر النحاس المعدن الثالث لتخزين الثروة في ظل غياب البنوك في ذلك الزمن، فقد كانوا يخزنون النحاس رصيداً للأيام العصيبة بدلاً من المال، من خلال شراء قطعة فنية أو لوحة نحاسية، وتباع عند الحاجة بسعر أكبر مما كانت عليه.

يقول أمين سر حاضنة دمر، إن حرفة النحاس إبداع يتطور ولن ينقرض أبداً، وحتى الآن يوجد عليه إقبال كبير رغم الاستهداف الكبير للتراث السوري خلال فترة الحرب على سورية، خاصة أن الاعتماد الحالي في الخط والرسم الزخرفي هو اعتماد كامل على النحاس. فهذه الحرفة تمثل بحر الصناعات الدمشقية الصناعات الدمشقية العريقة، إضافة إلى كونها تمثل حالة توثيقية لحوادث تاريخية وشخصيات معروفة في عصور معينة، وتدل على حقب زمنية مختلفة من خلال الأعمال التي تنشر في كل مرحلة، حيث شكلت النحاسيات التي زينت بها القصور الدمشقية والمساجد والكنائس أجمل ما صنعته أيدي النحاسين الرسامين بزخارف وكلمات معبرة عن واقع وحدث معين.

دورات تعليمية

وإن لم نسمع اليوم أصوات مرتفعة لمطارق النحاسين في دمشق القديمة، إلا أن حاضنة دمر للتراث تعج بالصفوف والطلاب من الجيل الجديد الذين يتعلمون الحرفة على أصولها وبشكل متقن بكل ما تحمله من تطورات وما لحق بها من إضافات معرفية تواكب العصر الحالي، مع الحفاظ على هذا الإرث الحضاري، ولكن بنكهة حديثة.

يشير بعض الحرفيين في الحاضنة أنهم اليوم يواكبون التطورات التي تدعم هذه الحرفة، فهناك ابتكارات مختلفة وخاصة أنها انتقلت من صناعة الأواني والأثاث المنزلي إلى صناعة الديكورات واللوحات الفنية، كما تم إدخالها في صناعة الصنابير والمغاسل وفي المرايا والإطارات وتحف الزينة ومصبات القهوة التي أصبحت تصنع من النحاس وتزركش بالنقش الليزري، ما يعطيها مسحة جمالية رائعة ويجعلها تحفة فنية تنال إعجاب الجيل الجديد قبل القديم. وقد تم تصنيع نحاسيات حديثة مزركشة بأجمل الرسومات والنقوش التي تعبر عن الروح الثقافية الشرقية. وقال الحرفيون إن هذه الحرفة تحتاج اليوم إلى دعم اقتصادي كبير واهتمام أكبر بالجانب التعليمي والتدريبي، انطلاقاً من أهمية الدخول إلى سوق العمل والبدء بمشاريعهم الإبداعية الصغيرة.

لمحة واقعية

هناك إقبال كبير من قبل الجيل الجديد على تعلم الحرفة بحسب أمين سر الحاضنة، مبيناً أنها لم تعد أي حرفة من الحرف القديمة حكراً على عائلة معينة، وإن مجلس شيوخ الكار ينطلق اليوم من أهداف تعليمية دون أي احتكار من قبل شيوخ الكار، وذلك واجب وطني ومسؤولية للحفاظ على التراث السوري. مشيراً إلى أن التطور يأتي من العمل المستمر وتراكم المعارف. ففي الحاضنة كل يوم يوجد موضوع جديد يساعد في دمج الحرف وتطويرها.

روح الإبداع

الزخرفة على النحاس كمثيلاتها من الحرف اليدوية الدقيقة، تحتاج إلى التحلي بالصبر ودقة الملاحظة والتفرغ، إذ يبين التنبكجي أن التطورات الحديثة في الصناعات لم تؤثر سلباً على حرفة النحاسيات، بل على العكس كانت سبباً في تقوية هذه الحرفة، بحيث أصبح الفرق كبيراً بين القطعة الفنية المشغولة يدوياً التي تحمل روح الفنان ودقة الصنعة، وبين القطع التي تنتجها الآلات الحديثة والتي تكون متشابهة بشكل كامل، فمن يقتني القطعة الحرفية اليدوية يشعر بأنها تحمل الحياة وكأنها تنطق، بينما من يقتني القطعة المصنعة آلياً فإنه سيجد عشرات القطع الشبيهة لها في السوق.

في العمل الحرفي لا يمكن أن تأتي قطعة مشابهة للأخرى مهما حاولنا ذلك، إضافة إلى الفترة الزمنية التي يحتاجها الحرفي لإنتاجها، حيث لا يستطيع إنتاج أكثر من قطعة أو قطعتين في العام كله.