لا يقتصر الرثاء على الشعراء والأدباء، ولا تعبر عنه القصائد فحسب، إذ يعتبر الرثاء الشعبي الأكثر شيوعاً بين فئات الناس، فطريقة التعبير عن الحزن تختلف من شخص لآخر.

ولكن بعض النساء يترجم الحزن على لسانهن نوح وندب، وهما الاسمان الأكثر شيوعاً للرثاء الشعبي، أما وجه الاختلاف بينهما فهو أن النوح أو النواح هو إعلاء الصوت حزناً أو شوقاً ومنها جاءت تسمية صوت الريح بالنواح، والنائحة "إن كان النوح على الميت" تقول كلاماً عاماً لأنه ليس بالضرورة أن تعرف الميت وصفاته، لكن الندب فهو ذكر محاسن الميت وصفاته، ويجب على النادبة أن تعرف صفات الفقيد بدقة.

أما بالنسبة للندب فإن ما تم جمعه يعد قليل نسبياً بالنسبة للتناويح، بسبب وفاة بعض النسوة ممن يحفظن الندب، كما أن ذاكرة أخريات لم تساعدهن على التذكر، ومن الندب التي جمعناها هذه الندبة عن لسان إحدى نساء القرية قيلت في وفاة أحد الشيوخ: "يا قوالي على الشيخان فلان لا تنسي راعي المنسف المليان رز ولحم مطالع فيه يا أبو فروة سماوي أكتافك شايلين منها وين رايح يا أبو علي دار للعز مخليها يسلم بعدها ابني ويسحق بقهويها" وفي وفاة أحد الشباب في الاغتراب قيل: "فلان راكب مهرته / حول نواحي المقبرة ما ادري يلعب بالرجيدة/ ولا سكنها يا ترى؟ يا أخته ظبي بدلته / عن الأرض لتغبّرا"

والذاكرة الشعبية مازالت تزخر بالكثير مما قيل في النوح والندب ولا تزال ذاكرة بعض النسوة تحتفظ به، وحفاظاً على هذه الذاكرة من الضياع، تقوم وزارة الثقافة بجمع وتسجيل وتوثيق التراث المادي والمعنوي وحمايته من التغيير، بالإضافة إلى الحفاظ على الحرف التقليدية التي تمثل جزءاً هاماً من الموروث الحضاري للتاريخ، لذا تعمل الوزارة على إقامة قرية تراثية نموذجية ومتحف تراثي شعبي ليكون رمزاً وطنياً يربط الأجيال الناشئة ببعضها، استناداً لذلك تم تكليف مديرية التراث الشعبي القيام بهذا الأمر لجمع التراث، وتم تشكيل لجان أعضاؤها رؤساء المراكز الثقافية، ويعتبر المركز الثقافي في "لاهثة" من المراكز المتميزة في هذا المجال، حيث قامت رئيسة المركز الثقافي الآنسة "بثينة والي" بجمع ما تحتفظ به نساء القرية من حكايات شعبية وأغاني وأهازيج وتناويح وندب، وتوثيقها.

"بثينة والي" رئيسة المركز الثقافي في "لاهثة"

وفي حديث لموقع eSuweda تحدثت عن أبرز ما تم توثيقه في الرثاء الشعبي قائلة: «الرثاء الشعبي هو نوع من التعبير الوجداني عن مشاعر الحزن والألم لفقدان الأحبة، وفي الموروث الشعبي للرثاء نلاحظ الزخم والتنوع حيث يختلف رثاء أحد الأبناء عن رثاء الأبوين أو الإخوة أو الزوج، هناك الكثير من الندب التي تقال على الجار المتوفى، أو على وفاة شاب في المغترب، أو على وفاة أحد الشيوخ، وفي التناويح كثيراً ما نلاحظ تنافس النائحات لإثبات المقدرة على القول والفصاحة، لأنه في كثير من الأحيان تكون النائحة من ضيوف القرية، وهي من العادات الجميلة التي تشترك بها قرى "السويداء" وهي المشاركة في الأحزان، وهذه إحدى التناويح التي تقال على الميت عن لسان إحدى النساء في القرية:

"واندبو حلو المعاني / واصبغوا بيض الثياب

واندبو حلو المعاني / حيف يا راعي الأماني

بندبك يا نور عيني / وبفقدك بين الشباب..."».

وعن لسان السيدة "حشيمة الباشا" من مواليد عام 1937 هي جزء من ذاكرة القرية وتحفظ بعض ما قيل في النوح والندب، ذكرت مقاطع من إحدى التناويح التي تقولها الزوجة على وفاة الزوج:

"ما هذا العهد الذي بيني وبينكم/ انتم رحلتوا وأنا بالدار ظليت

أنتم رحلتوا وانكسر خاطري/ وذليت أنا على فراقكم ذليت

من بعد ما كنت بقصر مشيد/ من دون قصري ما حليلي قصور

يا قصر العالي وانهارت ركايزه/ من شؤم حظي صبح القصر مهدوم

------------

يا سبع بالبيت.. يا ذيب بالفلا/ يا عجابها كيف الموت حواك

لو تنفدا بالروح كنا فديناك/ لو تنشرا بالمال كنا اشتريناك».

وللميت ذو المكانة العالية نصيب من الرثاء حيث ذكرت السيدة "حشيمة" أيضاً:

"من باب القصور طلعت الضجة القوية

وانفقد ركن من الأهالي / وانفقد ركن كان عالي

يسلموا بعده الشبابِ / بديارنا ملتقين/ بديارنا ملتقاهم

سباع والمولى أعطاهم/ من جدودهم حتى آباهم/ وارثين كل الحمية"».

وتتابع الآنسة "بثينة والي" قائلة: «أما بالنسبة للندب فإن ما تم جمعه يعد قليل نسبياً بالنسبة للتناويح، بسبب وفاة بعض النسوة ممن يحفظن الندب، كما أن ذاكرة أخريات لم تساعدهن على التذكر، ومن الندب التي جمعناها هذه الندبة عن لسان إحدى نساء القرية قيلت في وفاة أحد الشيوخ:

"يا قوالي على الشيخان فلان لا تنسي

راعي المنسف المليان رز ولحم مطالع فيه

يا أبو فروة سماوي أكتافك شايلين منها

وين رايح يا أبو علي دار للعز مخليها

يسلم بعدها ابني ويسحق بقهويها"

وفي وفاة أحد الشباب في الاغتراب قيل:

"فلان راكب مهرته / حول نواحي المقبرة

ما ادري يلعب بالرجيدة/ ولا سكنها يا ترى؟

يا أخته ظبي بدلته / عن الأرض لتغبّرا"».

ومن النسوة من يحفظن الندب والتناويح ويرددنها، ومنهن من تمتلك القدرة على تأليفها، السيدة "سيطا الدالي" من مواليد قرية "لاهثة" عام 1942 تحفظ في ذاكرتها العديد مما اختزنته السنين الماضية، وقامت برثاء قائد الثورة السورية الكبرى "سلطان باشا الأطرش" بالقول:

"الكفر والمزرعة تشكرك/ يا بي الموحدين يا أعظم ملك

كل الدنيا وأفرادها والفلك/ أزروا بعزاك الله يرحمك

يا جيد يا جويد يا طاهر يا تقي/ يا جوهرة صافية من معدن نقي

سلطان باشا الله يرحمك/ وبجنة الفردوس ان شاء الله نلتقي"

وأفادتنا بإحدى التناويح التي تقال في رثاء الأبناء:

"يا حبيبي لوين بدك/ لاقعدلك على دربك وردك

وحياة إخوتك الغاليين على قلبك/ شرق وغرب واجعل دارنا دربك".

هذا وما زلنا نجهل الكثير.. الكثير من موروث أجدادنا وآبائنا، منه ما دفن مع أصحابه، ومن ما غاب في غياهب النسيان، أما ما حفظناه وما زلنا نردده فهو محفوظ في ذاكرتنا وسيرثه أبنائنا من بعدنا.