مَن يزور "أبو راشد" في مقره الكائن في محلة "الدقاقين" بجانب الباب "الصغير" –أحد أبواب "دمشق" التاريخية- يمكنه أن يكتشف أحد أهم ملامح شخصية هذا المختار العتيق، فهو مهتم بالقراءة، ومولع بتاريخ "دمشق" وتراثها، ويشهد على ذلك أكداس الكتب التي انتشرت في حنايا مقرّه الصغير الأشبه بمتحفٍ تزين جدرانه صور الثوّار، وقدامى المجاهدين، والشهداء من معركة "ميسلون" إلى حرب "تشرين" التحريرية.
لقاؤنا مع مختار "الشاغور الجوّاني" بتاريخ 8/10/2009 جاء في مستهل سلسلة من المقابلات التي يجريها موقع "eSyria" مع مخاتير أهل الشام، وبدأنا حديثنا معه بأبرز المحطّات في حياته الشخصية: (ولد أبو"عمر خادم السروجي"؛ "أبو راشد" سنة 1930 في حي "الشاغورالجوّاني"، وحصل على شهادة التعليم الإعدادي؛ "الكفاءة" في وقتٍ كانت تعتبر فيه هذه الشهادة من المراتب العلمية المميزة مما أهلّه عام 1950 للعمل في محافظة "دمشق" التي كانت تعرف بــ "أمانة سر العاصمة" واستمر في عمله حتى 1970 عندما تم اختياره ليكون من أوائل الموظفين في المؤسسة العربية للإعلان التي كانت في طور التأسيس آنذاك، وذلك بناءً على خبرته السابقة كمسؤول عن الإعلان في المحافظة، وفي العام 1980 تم اختياره مختاراً لحي "الشاغور الجواّني" خلفاً لــ"أبو علي: "محمد ست البنين"، فتقاعد "أبو راشد" من وظيفته الحكومية ليتفرغ لعمله الجديد، وهو مختار "الشاغور الجوّاني" للسنة التاسعة والعشرين على التوالي).
إعطاء المرأة دوراً أكبر من الذي كان لها في الحقيقة, فالمرأة لم تكن تخالف الرجل، أو ترفع صوتها على صوته
"أبو راشد" لا يذكر من هو مختار "الشاغور الجوّاني" قبل "محمد ست البنين"، لكنه يقول أنه قبل مئةٍ عامٍ تقريباً كان هناك مختار واحد لحي "الشاغور" ككل، ولكن نتيجة توسع الحي وزيادة عدد سكانه أصبح له مختارين أحدهما للــ"جوّاني"، والثاني للـ "البرَانى".
وعن كيفية اختيار المختار، ودوره في حياة الحارة بين الماضي، والحاضر؟ يقول "أبو راشد":«ينتخب المختار اليوم عن طريق مجالس الإدارة المحلية، أما في الماضي فكان وجهاء الحارة يذهبون إلى المحافظة ليختاروا شخص له صفات معينة أهما أن يكون مقبولاً شعبياً كوجه من وجوه الحارة، ويجيد القراءة والكتابة، وغالباً ما كان هناك عائلات دمشقية تتوارث "المخترة" أباً عن جد».
ويضيف "عمر خادم السروجي" « كان للمختار في الماضي دور مهم في حياة الحي، وعنده أخبار أبناء حارته؛ أحوالهم وأنسابهم، يدخل في الوساطات ويحل النزاعات، فضلاً عن دوره كصلة وصل بين الدولة والمواطن.
أما اليوم ونتيجة انتقال معظم السكان من أحيائهم الأصلية إلى أحياء جديدة، فينحصر دور المختار بالأحوال المدنية للمواطنين؛ كتسجيل وقائع الولادة والوفاة، وإصدار سندات الإقامة، وشهادات التعريف...
خاصة مع صدور قرار يتيح للمواطن إمكانية استصدار أوراقه من مكان سكنه الحالي، وليس من مكان قيده الأصلي فقط كما كان سابقاً، فالشخص الذي يسكن حي "المزّة" اليوم وتعود أصوله إلى "الشاغور" يستطيع استصدار أوراقه من كلٍ من مختاري الحيين، مع حرص العديد من أبناء "الشاغور الجواّني" إلى الآن على تسجيل أولادهم على سجلات "الشاغور" الأصلية».
حديث "أبو راشد" عن سجلات حي "الشاغور الجواّني" فتح أمامنا باب الإطّلاع على كنزٍ من الصفحات الصفراء التي دوّنت عليها أسماء أبناء عائلات "دمشق" العريقة ممن تعود أصولهم إلى هذا الحي، ويكفي أن تذكر اسم عائلة من عائلات "الشاغور الجوّاني" حتى يذكر لك "أبو راشد"؛ خانتها، وأصلها، وفصلها، ويؤيد كلامه بفتح صفحةٍ من صفحات سجلاته ليريك أصل النسب أباً عن جد، ومن هذه العائلات؛ عائلة المختار "خادم السروجي"، ويقول "أبوراشد" عن عائلته: «تعود أصولنا إلى المغرب العربي، وأساس عائلتنا ليس "خادم السروجي" وإنما "الخوَام" وهناك وثائق تؤيد هذا القول في سجلات المحاكم الشرعية، وهي محفوظة اليوم بدار الوثائق التاريخية في "دمشق".
و"الخوّام" اسم مهنة كانت رائجة في الماضي، وهي عزل أسقف البيوت بما يشبه قماش الخيمة يتم وضعها فوق الخشب قبل أن يتم طلاء السقف. وعائلة "الخوَام" تفرعت إلى ثلاث عائلات: العائلة الأصلية عاشت في "القنوات" وبقيت على نفس الاسم "الخوام" نسبة إلى جدنا الأول الشيخ "أحمد الخوّام", والعائلة الثانية عاشت في "الميدان" وأصبحت تحمل اسم "عمر باشا" نسبة إلى أحد أبناء العائلة الذي كان قائداً في الجيش العثماني وأخذ البشويّة, وسّمي أولاده وأحفاده بهذا الاسم, وهناك ساحة في حي "الميدان" باسمه, أما العائلة الثالثة فهي عائلتنا، فجدّي سكن حي "الشاغور"، وقام على خدمة جامع "السروجي" المبني على مقام الشيخ "أحمد السروجي"، ومن يومها أطلق على عائلتنا هذا الاسم؛ "خادم السروجي"، وتلفظ خطئاً "خدام السروجي"».
وعن اهتماماته الحياتية يقول "أبو راشد": «أنا عضو في جمعية "البيت الدمشقي" التي تهتم بالحفاظ على التراث المعماري لمدينة "دمشق"، وأحب القراءة كثيراً، وأواظب على الحضور في المراكز الثقافية العربية، وأعمل حالياً على جمع أسماء مشايخ أهل الشام، وعلمائها» ..
وإلى جانب تلك الاهتمامات يستهوي المختار جمع صور الثوّار، والشهداء، وقدامى المجاهدين من أبناء حي "الشاغور"، "أبوراشد" روى لنا قصّته مع هذه الهواية: «يقال أن عدد ثوّار "الشاغور" الذين شاركوا في الثورة السورية الكبرى سنة 1925 بلغ 117 ثائراً من أبناء هذا الحي على رأسهم "حسن الخراط، ونسيب البكري" .. وقبلهم كان "يوسف العظمة" الذي خرج لمواجهة الاحتلال الفرنسي في "ميسلون"... هذه المعلومات قرأتها في كتاب لــ "أدهم الجندي" الذي قَدِم إلى الشام سنة 1950 وكان قسم من الثوار ما يزالون على قيد الحياة, فأخذ لهم الصور وأرّخ لمشاركتهم في الثورة، وعندما أصبحت مختاراً للحي، كنت كلما جاءني أحد أقرباء أولئك المجاهدين لاستصدار ورقةٍ خاصة به, سألته ما صلة القرابة التي تجمعه مع المجاهد فلان بن فلان؟.., فإذا كان من المقربين منه ؛ أحد إخوته، أو أبنائه، أو أحفاده طلبت منه صورة له، وهكذا جمعت عدداً كبيراً من الصور لمجاهدي حي "الشاغور"، ولكل صورة قصة، فهذه الصورة مثلاً لـ "تحسين باشا الفقير" وهو "قائم مقام" كان مع "يوسف العظمة" في "ميسلون" ولكنه لم يستشهد، ثم اشترك في ثورة "رشيد عالي الكيلاني" بالعراق، كما ذهب للجهاد في اليمن.
وتلك صورة تجمعني مع من بقي من المجاهدين على قيد الحياة في المركز الثقافي العربي في "ببيلا"، فأنا عضو في رابطة المحاربين القدماء، ويظهر في الصورة "أبو ظافر الكيلاني" عندما أهدوه درعاً تكريمياً, و"عمر أرناؤوط"، وكلاهما من قدامى المجاهدين.
أما هذه الصورة فهي للمجاهد المرحوم "محمود خادم السروجي" وهو عمي، كما يوجد صورة للشهيد "عز الدين الكزبري"، ولــ "ياسين النشار" وكلاهما من شهداء حرب تشرين التحريرية..
وهذه صور لــ" يوسف العظمة، وحسن الخراط، ونسيب البكري، وشكري القوتلي، وفائز منصور"..».
ولا تقتصر مقتنيات "أبو راشد" من الصور على الثواّر فقط، بل تشمل أيضاً وجهاء الحي كــ «"أبو رياض المنجد" الذي ظل يلبس اللباس الشعبي لأهل الشاغور حتى مماته، والشيخ "محمد الهاشمي" تلميذ المحدّث الأكبر الشيخ "بدر الدين الحسني"، وكان "الهاشمي" من رجال المقاومة الشعبية سنة 1958».
هذا الكم الوافر من المعلومات التي وضعها "أبوراشد" بين أيدينا عن أحوال الشام وأهلها كان مناسبةً لسؤاله عن مدى تطابق القصص التلفزيونية التي تتناول "دمشق" القديمة مع الواقع؟ فأجاب "أبو راشد" قائلاً: «القصص المعروضة على التلفاز يوجد فيها شيء من الصحة, ولكنها ليست كما رويت حرفياً, فهي لا تخلو من التضخيم, وهذا من خيال الكتّاب وبراعتهم في تحويل ما يحكى عن المدن في الواقع إلى روايات لا تخلو في بعض مفاصلها من الأسطورة. وهذا حال "دمشق" مع المسلسلات التلفزيونية، وما كتب عنها».
أما عن المبالغات في المسلسلات فيذكر منها المختار «إعطاء المرأة دوراً أكبر من الذي كان لها في الحقيقة, فالمرأة لم تكن تخالف الرجل، أو ترفع صوتها على صوته».
ويؤكد "أبو راشد" أن شخصية "العقيد أبو شهاب" التي أدّاها الفنّان "سامر المصري" في مسلسل "باب الحارة" شخصية حقيقية من الــ "مزَاز" في حي الـ "شاغور البرَاني"، وأن الفنّانين يعتبرون "المخاتير"، وكباريّة الحارات مراجع حيّة للشخصيات التي يمثلونها، وروى لنا قصّة تؤيد كلامه: «قصد الفنانين "عباس النوري" و"نزار أبو حجر" " أحد وجهاء حي "الشاغور"؛ "أبو راتب الشنواني" للسؤال عن "حسن الخراط" وزوجتيه الأولى والثانية من أجل التأكد من بعض التفاصيل الخاصة بمسلسل "أولاد القيمرية", فأخبرهما "أبو راتب" أنه لا يعرف الكثير من المعلومات، ورتب لهما لقاءً معي فقمت بتصحيح بعض المعلومات التي قد تفيدهم في تقديم الدور التمثيلي».. وأشار "أبو راشد" إلى الصورة التي جمعته مع كلٍ من "أبو راتب، وعباس النوري، ونزار أبو حجر"...
و"المختار" ليس مرجعاً للفنانين والكتَاب السوريين فقط ، وإنما بالنسبة للمستشرقين المهتمين بتاريخ المنطقة، وإليكم هذه القصة التي رواها "أبو راشد" عن مستشرقٍ أميركي قصده لاستكمال بحثه عن "يوسف العظمة" ومن خرج معه في معركة "ميسلون" لمواجهة الاحتلال الفرنسي، يقول"أبو راشد": «جائني مستشرق أمريكي عن طريق رجل دمشقي اسمه "محي الدين الخطيب" يملك داراً للنشر في "القاهرة", وكان يبحث عن وثائق تاريخية لمن خرج مع "يوسف العظمة", وكان معه مصور، فسألاني عن أسماء الرجال الذين تطوعوا من خارج الجيش وخرجوا من حّي "العمارة" وحي "الشاغور" كرجال بيت "الفواخيري", كما سألا إن كنت أعرف أحداً شهد "ميسلون" ومازال على قيد الحياة, فرتبت لهم لقاءً مع الشيخ "رجائي الخطيب" خطيب جامع "الخريزاتية" الذي استشهد أخوه في "ميسلون"، فسمع من المستشرق ما يعرفه الشيخ "رجائي" عن المعركة، وكان يتحدث العربية بشكلٍ جيد، وعرض عليه الشيخ شجرة العائلة، وقد ضمت هذه الشجرة اسم "محي الدين الخطيب"، وأذكر أن المستشرق أخذ صورةً لشجرة العائلة ليضمنها بحثه، كما زارتني أيضاً مستشرقة ألمانية، وعرضت علي وثيقة مسجلة باسم عائلتنا؛ "الخوَام السروجي"»..