منذ سنين – ربما تراها اليوم – أمست بعيدة؛ كانت هوايتها اللغة الإنجليزية، وإلى جوارها تشكّل في روحها ولهٌ ببلاغة اللغة العربية، فكان أن درست الأولى أكاديمياً حين بدأت تلمس جمالياتها الكثيرة في الآداب المكتوبة باللغة الإنكليزية.. هي الكاتبة والصحفية والمترجمة ومعدّة البرامج التلفزيونية حنان علي التي أصبحت اليوم من مترجمات الصف الأول في الترجمة بين اللغتين العربية والإنجليزية ذهاباً وإياباً.
ترجمت لكتّاب مبدعين حاصلين على جوائز عالمية
إلى جانب الترجمة التي كانت أهم شواغلها، كان شغفها في كتابة المقالة الصحفية، وفي إنتاج القصيدة..
علي التي تتكئ على ما تملكه من كفاءات خاصة في فنون الترجمة والصحافة وإعداد البرامج التلفزيونية، معولةً على الخبرةِ المكللة بالشغف.. تقول: "أقدّم مسيرتي المهنية بالترجمة التي تمخضت عن (12) رواية إلى اللغتين العربية والإنجليزية لكتّاب مبدعين حاصلين على جوائز عالمية، قامت بنشرها وتوزيعها أهم دور النشر العربية: المدى العراقية، وسم الكويتية، المحيط الإماراتية، والتكوين السورية".. وفي رصيدها الإبداعي مجموعة شعرية حملت عنوانا (من يحمل لوني عني)، الصادرة عن دار التكوين السورية..
ابنة (عين الحياة) ضيعتها في ريف جبلة، والتي يبدو أنّ لديها الكثير من المخزون الروحي المشتق من خلاصة المكان بصرياً وجمالياً ومثولوجيا.. وكان من حصاده هذه الترجمات والتغطيات الإعلامية إلى اللغة الإنجليزية والعربية، والتي تبنتها منابر عربية عريقة في سوريا، الإمارات، سلطنة عمان، العراق. وهو ما صقل قدرتها على التقاط جوهر العمل الأصلي وتعقيداته بطريقة مقنعة ودقيقة.
" غداً قبل أن أغادر،
سأرممُ قصيدة وجهي،
ياقوتة العقد القديمِ أحملها،
تعاويذ العراف أطلقها،
في خطوط كفك،
كفي أسكبها،
معك غداً حينَ أغادر.".
كتبت ومضات شعرية وقصصاً قصيرة بعضها لم يبصر النور بعد
وأضافت حنان علي في حديثها لمدونة وطن: "كصحفية، طورتُ أسلوبي بكتابة مواضيع ثقافية متنوعة وصياغة حوارات جذابة عبر الاهتمام الدقيق بالتفاصيل. أما خبرتي في إعداد البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية فساهمت بتزويدي بفهم عميق بالحكايات المرئية.."، وتُضيف: أكتب ومضات شعرية وقصصاً قصيرة بعضها لم يبصر النور بعد.
في رواية (سنة العجائب- "حكاية وباء")، التي ترجمتها (علي) للكاتبة جير الدين بروكس؛ ثمة لافتة قديمة مكتوبٌ عليها "بلدة الطاعون" وثمة سهمٌ آخر يُشير إلى قرية "إيام" في ديربيشاير إحدى مقاطعات شرق (ميدلاندز) في الريف البريطاني، وثمة جملةٌ أخرى وردت في كتاب (طاعون إيام 1665 – 1666) للكاتب جون جي كليفورد.. ذلك ما ستكون بواعث لافتة للصحفية والكاتبة الأسترالية جيرالدين بروكس، لنسج روايةٍ غنية بالكثير من الوصف، والمعلومات المذهلة عن الطاعون الذي أصاب هذه القرية البريطانية في سنةٍ اجتمعت فيها أرقامٌ لعددٍ "شيطاني" -666- كما تروي الكثير من المثيولوجيّات، فكانت (سنة العجائب- "حكاية وباء")، هنا حيث "أفضل الأعمال التاريخية؛ التي تقتات على وجباتٍ صغيرة من السجل الواقعي" على ما تؤكد (بروكس) نفسها، وتضيف إنّ عملها الروائي هذا – مع ذلك – هو عملٌ خياليٌّ مستوحى من قصص حقيقية عاشها سكّان قرية (إيام)، وكانت زارتها الكاتبة سنة 1990، أي بعد حدوث المحنة بما يُقارب من خمسة قرون.. حيث مايكل مومبليون مُجسداً لكاهن القرية الحقيقي (ويليام مومبسون)، والذي كانت جملته: "حافظت خادمتي على صحتها بفضل الرب، ولو مرضت لاضطررت لغسل ملابسي، وشراء الطعام بنفسي، أو تعرضت للإصابة بالمرض"، التي سجلها له (جون جي كليفورد) في كتابه السابق الذكر.. جملة تقول عنها بروكس:"أوحت لي بمحاولة تخيّل حال هذه المرأة، كيف عاشت، وبماذا شعرت.."، هذه الشخصية الواقعية التي استعارت الروائية صوتها لتكون الساردة والحائكة لكل نسيج (سنة العجائب)..
تقص سيرتها الشعرية في ديوانها "من يحمل لوني عني"
يقول الكاتب علاء زريفة عن مجموعتها الشعرية"من يحمل لوني عني": "أربعون ألف سنة من لغة الإنسان، ولا يُمكنك أن تجد حرفًا واحداً يصف الشّعور الّذي بداخلك تماماً!." تبدو هذه العبارة للفيلسوف الفرنسي سيوران تقديماً مناسباً لكتاب "من يحمل لوني عني"، حيث يأخذ النص الأدبي شكل الومضة، وهي تقتنص عبر تكثيفها أغلب المعاني الإنسانية والعاطفية والاجتماعية وفق منظورها في فترة الحرب المظلمة من حياتها، فتُشكّل لوحاتها وترتقي إلى الشعر الذي يُجسد تأملات أنثى حالمة بفضاءات واسعة متحديةً، فتصطدم بسقفٍ واطئ لا يصل إلى مستوى طموح مشاعرها وذلك عبر ألفاظ وكلمات بسيطة وقليلة تمكنت أن تجسد فيها ما تريد:
ف "ماذا أفعل بطائرتي الورقية ..
وسقف غرفتي منخفض؟!".
و"مفاتيح بلا أبواب تخفيها محفظتي،
كم علينا أن نتشرد؛
لندرك أن لا بيت لنا".
تختصر هذه الجملة المعجونة بالأسى وبثنائية الموت البطيء والتهجير المزدوج، داخلياً تجاه الذات لاستقرائها. و نكرانها للواقع السوري الحالي. وخارجياً معبرة عن تشظ وجودي لتلك الذات الوطنية الضائعة في ذوات أفراده. والكتاب – بتقديره- يستخدمُ لغةً سردية - شعرية مكثفة باذخة الجمال تستحضر فيها وجعها الفردي في كلِّ امرأةٍ سورية.. لغة توجع الحزن النبيل، تخثر الدم في عروق الجغرافيا الجافة، ولا تستسلم لنكروفيليا محطمة، بقدر ما تحملنا على تشهي هذا الحزن واجتراره لندرك فداحة المأساة والكارثة المرتكبة منذ سنوات الحرب الطوال. وفي المقطع التالي؛ تتمرد اللغة لتخلق (نيرڤانا) الروح السورية البكماء التي استعذبت احتراقها، ولم تنضج بعد (أنا) جمعية لتحمل أعباء نزيفها الساخن:
فيما يقول الناقد عبدالله السمطي في كتابه (حواس الأنوثة) عن مجموعة "من يحمل لوني عني":إن الشكل الذي صدر فيه الديوان لا يفارق الاجتهادات التي جاءت بها قصيدة النثر عبر استقصاءاتها المتتالية.. وقد قسمته الشاعرة إلى مقاطع مرقمة طويلة أو قصيرة بالترقيم الروماني، حيث يحوي الديوان (105) مقاطع، تتراوح طولاً وقصراً فأكبرها يتجاوز
عشرين سطراً، وأقلها قد يقع في سطرين... وتختتم مقاطع الديوان بالرقم ( CV) ( 105) حسب الترقيم الروماني، وقد نجد دلالة ما في الانتهاء ب CV ربما للإشارة إلى الاختصار الإنجليزي لمصطلح: سيرة ذاتية بالمعنى العملي للسيرة، لا بالمعني الأوتوبيوجرافي، كأن الشاعرة قصت سيرتها الشعرية في هذا الديوان، حيث يقول المقطع الأخير:
"يلفُّ دروبه الكونُ
يصغرُ، يضيقُ،
ينحشر في قادم الحكاية.."
ويُضيف: إن الديوان أحد الأصداء التعبيرية لهذا الفضاء المأساوي المهيمن اليوم، ومن هنا تتوجه الشاعر إلى آخر غائب، ربما غيبته الحرب، ربما غيبه الموت، لكن هذا الآخر يومئ إلى شخصيات عدة: الأب، الأخ، الزوج، الابن... إلخ هذه الشخصيات التي تُسهم في الحرب من جهة، وتشارك بحضورها أو بغيابها في صنع حالة الفقد وفي صنع هذه الأجواء المأساوية.. هذا التنويع الشكلي منح الشاعرة القدرة على بسط النصوص، وقبضها تبعا لما تتيحه فاعلية الكلام الشعري واستقصاءاته. إن النصوص القصيرة المكثفة تعطي أن الطاقة التشعيرية للكلمات تصبح أكثر حدة، وأكثر استقطاراً وإشعاعاً دلالياً ورمزياً، وتعطي أن الجملة الكلمة لا الجملة هي مناط التعبير الشعري المكثف وسبيل ارتهاناته.
" يا دمشق !
لو أني مثلك يطوقني قاسيون،
لم أكن لأرتاب من أسود الدخان
في أطراف الحارة البعيدة..".