لا يمكن أن يأتي الحديثُ عن تجربته مكثفاً، أو مختزلاً، كما قد يلجأ إلى ذلك فنان تشكيلي من إيجاد مُعادلٍ إبداعي لجمالٍ ما؛ كان باعثه لعمارة لوحةٍ أو عملٍ فني بالاختزال والتكثيف.. هنا لا بد للقراءة في أعمال الفنان الزعبي من أنْ نتشعبَ، وقد نذهبُ باتجاهاتٍ بعيدة في محاولةٍ للإحاطة بتجربةٍ قاربت، أو ربما تجاوزتْ النصفَ قرنٍ من السنين.. تجربة كان لها ملامحها الخاصة من الغنى، ومن محاولة بحثٍ عن هويةٍ سورية في عالمٍ يسعى بلا هوادة لتدمير الهويات.

التعبيرية المثيولوجية

تجربةٌ فنيةٌ؛ تعددتْ أنواع التعبيريات التي تناولها أو اشتغل عليها الزعبي، غير أنه يُمكن أن نُسميها، أو نطلق عليها: "التعبيرية المثيولوجية".. من خلال لوحةٍ مفعمةٍ بالمثيولوجيا السورية، الموضوع الذي طالما ظلّ مغوياً وأثيراً على نفسه

فالزعبي منذ البدايات الأولى لتجربته توجّه بفنه صوب البيئة الطبيعيّة والشعبيّة لمحافظته – حماة – مدينته الأثيرة، وعندما سألته لماذا كان على المبدع وأياً كان نوع إبداعه، أن تكون تلك الحمولات التي يحملها من ذاكرته" الطفلية" أولى المفردات التي يُضمنها في إبداعه، وربما بقيت الخزان الذي عليه أن يمتح منه طول الوقت؟!

الزعبي في أحد معارضه الفنية

فيُجيب في حديثة لمدونة وطن: لا أعرف كيف أبدو في نظر الآخرين، أما في نظري أنا فأبدو كما لو كنتُ مجرد إنسانٍ يُحاولُ دائماً إعادة اكتشاف ذاته.. وكأني ولوحتي رفيقان حميمان، كلٌّ منهما يُنقبُ في الآخر، ويدينُ له بالإخلاص.. ويُضيف: ولدتُ في بيتٍ وسط مدينة حماة، ببابٍ خشبيٍّ عتيق، وجدرانٍ مُغطاة بالنبات المتسلق "الخميسة"، وأرضُ دارٍ تتوسطها بحرةٌ بسمكٍ أحمر، وزنابق بيضاء، وفي الدار شجرةُ كبّادٍ، ومدرجاتٍ عليها صفوفٌ من تنكات الزرع، وحوضٌ بأجباب الورد والياسمين، وداليةٌ شهدتْ ولادة أبي في عام 1893، وفي الدار درجٌ بدرابزين يقود إلى: "المربع الفوقاني" – كما كان يُسمى – ومن فسحةٍ أمامه، كان يرتفعُ درجٌ خشبي إلى غرفةٍ صغيرة على سطحه، كنا نسميها لارتفاعها الطيارة.

الفضاء المكاني

من هنا من هذا الفضاء المكاني، حيث تُحيطُ ببيت الفنان أسواقُ حماة القديمة، وقريباً منه يوجد "حمّام الحلق" التي طالما كان يترددُ عليه مع أمه عندما كان صغيراً وذلك في الأيام المخصصة للنساء، والحمّام والمستحمون كانوا موضوع مشروعه الذي تخرج به من كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق سنة 1964 م.. وفي عام 1956م جمعت مناسبةٌ جميلة أربعة من شباب حماة ليشكلوا حلقةً فنية، وكان الزعبي خامسهم، وذلك عبر مشاركته معهم في أول معارضهم الذي أقيم في منزل صاحب فكرة تأسيسها توءم الروح -كما يطلق عليه- المرحوم "حمدو زلف" الذي كان قد قرأ، وهو في تلك السن المبكرة " 17 عاماً" معظم ما كتب جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه، وعلى غرار "الرابطة الأدبية" في المهجر كان تأسيس الحلقة الفنية في مدينة حماة.

الباحث أرام بشير

يتابع الزعبي حديثه: حماة التي كانت بحراتها وبساتينها وعاصيها مرسماً لأعضاء الحلقة الفنية.. كما كان ريف حماة الغربي مرسماً أيضاً.. ففي عامي 1957م و1958م؛ نصبت الحلقة الفنية في صيفهما مخيمين للرسم في "عين النابت" التي كانت تتوسط المسافة بين ناحية "مصياف"، وقرية "البيضا"، حيث كانوا ينطلقون صباحاً مع لوحاتنا وأدوات الرسم في كلِّ الاتجاهات، ثمَّ يعودون مساءً، لرؤية الأعمال ومناقشتها، وقد تمخض عن المخيمين معرضان كبيران، شغل كل منهما معظم جدران غرف وممرات أكبر ثانوية في حماة آنذاك "ثانوية ابن رشد"، وقد تصادف لحسن الحظ أن كان الفنان أدهم إسماعيل في زيارة لأحد أصدقائه في حماة عام 1957, فشاهد أعمالهم في معرض ذلك العام ولشدة إعجابه بهم جمعهم في ثانوية "أبي الفداء"، وحاضر فيهم لأكثر من ثلاث ساعات، ترافقتْ مع عرضه لما في حوزته من شرائح عن الفن العالمي بواسطة الفانوس السحري.

واقعية جوانية

بدأ الفنان الزعبي أكاديمياً، وواقعياً في فترة الدراسة.. لكنها واقعية لم يلهثْ فيها لمحاكاة يُعلن بواسطتها عن أستاذيةٍ ما، بل واقعية من خلاله هو، وما يعتمل في داخله.. ثم بعد التخرج كان له تجربة تجريدية، لكنها لم تستمر إلا لفترة محدودة.. ولم تخرج عن كونها محاولة للتعبير من خلال الشكل، وهو "المربع" على مثال ما كان يقوم به المغني، وهو يغني كلمة "يا ليل"، والتي من خلال طريقته في غنائها؛ يستطيعُ أنْ يُعبّرَ عن حالاته الشعورية فرحاً أو لوعةً أو معاناة.. إلا أنه سرعان ما عاد بعقله الفطري للحكايا القديمة ليسلتهمَ منها تكويناته اللونية المثولوجية، في محاولة -كما يذكر - للسعي إلى التعرف على ذاته بواسطة الفن، وذلك بنوعٍ من التذكر الحر، الذي قد يدخله إلى حجراتٍ في حياته الداخلية، حيث يُخيّل له أنه لم يكن قد دخلها من قبل ثم عبر التوحد مع مواد العمل وخاماته؛ قد يرى ما لم يراه سابقاً، ليس في الأشياء فقط التي تغصُّ بالمعنى، وإنما في طريقة توضع الألوان، وتركيباتها على لوحة الرسم التي تغصُّ بالمعنى هي أيضاً.

وفي قراءة أخرى

ومع ذلك لا يأتي الزعبي بالمشاهد كما هي كما يقول الناقد التشكيلي آرام بشير، وإنما ببعض ما يدلّ عليها من إشاراتٍ واختصارات، ويُضيف: لوحة الزعبي ليست سجلاً حافلاً بمشاهد مكتملة؛ إذ كل ما في اللوحة من مشاهد إنما هو رهنٌ بالحدس الذي قد لا يفضي إلا إلى اختصاراتٍ أو تلميحات.. ثم لا تلبث أن تتقبلها، بل أحياناً قد لا يتعبه شيءٌ قدر ما يتعبه أن تنمو لوحته بمنأى عنها، حتى إنه قد يدخل لتثبيتها في لوحة الرسم بمواجهة واسعة مع جميع القواعد والمبادئ التي سبق أن تعلمها. ورغم أن لوحة الفنان قد تأتي باختزالاتٍ وإشارات من البيئة المحلية؛ فإنَّ هذه اللوحة تذهبُ باتجاه البانورامية.

وتابع بشير حديثه: كأنه يقول إنَّ كلّ تلك الاختصارات، وما فيها من نقص هي الاكتمالُ بعينه، حيث كلُّ خطوة تقود إلى الخطوة التي تليها في حريةٍ مطلقة ليس لها ضوابط أو حدود، فهو عندما يعمل يتتبعُ على لوحة الرسم شكلاً، فيما ذاكرته تستقبل أشكالاً، ثم ما تلبث هذه الأشكال أن تتفاعل لتحفر مصيرها على طريقتها الخاصة في لوحة الرسم، كما لو كانت نباتاً يشقُّ الأوقات الخامدة للأرض بمعالجاتٍ وتفاصيل قد لا تنحازُ لأي معرفةٍ سابقة.. حيث تبدو الطبيعةُ بالنسبة للفنان الزعبي خزاناً لأشكالٍ، كثيراً ما يحفزه أو يستثيره شكلٌ ليضعه في لوحته، فقد تفردتْ لوحةُ الفنان نشأت الزعبي بعلاقتها الوثيقة بالطبيعة الريفيّة وإنسانها، فماهتْ بينهما وفق رؤية ملحميّة تمخضت عن نصٍّ بصري متكامل الخصائص والمقومات التقانيّة والمعرفيّة والتعبيريّة، حيث تتدفق الحياة في لوحاته.. فتبدو اللوحة بمشاهد متنوعة، ولكنها على أي حال غير مفتعلة.

البيت السوري

لوحة الزعبي - كما يراها الناقد بشير- لستُ جزيرةً منعزلة، وإنما هي جزءٌ من البيت الإنساني السوري على وجه الخصوص، وفي عروقها وتكاوينها لا تجري إلا دماءُ المجتمع الذي يعيشُ فيه صاحبها، وفي هذا السياق جاءت لوحة "العروس" على سبيل المثال، أو غيرها كما اختارَ حكايا ألف ليلةٍ وليلة، وقصة شهرزاد ليعرضها، متخذاً أسلوب السريالية، وعالم الحكايا، وفي لوحاته قد تنجحُ الكلمات في توضيح مواضيعها أو عرضها، لكن الكلمات تظلُّ مقاربةً مع المضمون الذي يحس، ولا يحكى أو يكتب لصلته باللاوعي من جهة، ومن جهة ثانية بالوثائق السرية للحياة.

المفارقة الجمالية

في أعمال الفنان الزعبي كثيراً ما يشعر المرء خلال القراءة، بأنَّ ثمة مفارقة يشتغلُ عليها في اللوحة، لا سيما عندما يتناول المرأة وجسدها، ففي تلك المناطق المفعمة بالبيوت الطينية والعمارة المحافظة، يحاول اصطياد الجمال العفوي الذي يتعادل بين جسد المرأة والعمارة الريفية.. والذي ارتبط في لوحاته برموزٍ.. فتارةً مع التفاحة التي هي رمز للحب لا للخطيئة، وتارةً مع الطائر رمزاً للحرية والسلام والطمأنينة.

وأحياناً مع الخبز الذي يستديرُ في رحم المرأة التي جاءت بحجم البيوت في لوحة "العودة" عام 1972م، كما يعتنقُ في لوحاته تقنياتٍ طوعية، فيستخدم جميع أساليب وحريات الرسم والتلوين؛ إذ كلّ شيءٍ في الفن الحديث ممكناً طالما هو مرهونٌ بالحس والضرورات الداخلية التي تقودُ التخيّرَ والمقارنة، وجميع المعالجات النقدية للوحة ليقدم فيها عالمه الخاص، ويوقعها في النهاية باسمه.