الصناعات التقليدية الشرقية موروث تراثي مهم تتناقله الأجيال يعبر عن ثقافة حضارة الشعوب وهويتها ويتميز بالأصالة والدقة والابداع والذي يتهدده الاندثار ما حدا بالجهات المعنية كوزارة الصناعة إلى إقامة دورات تدريبية مجانية للحِرف التُراثية الدمشقية منذ حوالي ثماني سنوات في منطقة باب شرقي بدمشق ضمن خان الزجاج، يمكن الزائر التعرف على الورشات المتلاصقة للحِرف اليدوية التراثية، وفي جوارها مقر الجمعية الحرفية للمنتجات الشرقية.

تدريب وتعليم

تشمل الدورات التي تتراوح مدتها بين شهر وثلاثة أشهر، حوالي ثماني عشرة حرفة تُمثّل الهوية السوريّة، بعضها مُهدد بالاندثار أو اندثر فعلاً، منها "القاشاني الدمشقي، الأحجار الكريمة، تنزيل المينا، الزجاج اليدوي"، إضافةً إلى "الأرابيسك والموزاييك الخشبي وخراطة المسابح". ولا يوجد شروط للالتحاق بالدورات، سوى ألّا يقل عمر المتدرب عن 18 ولا يزيد على 35 عاماً.

كل قطعة تحتاج زمناً معيناً لإنجازها، لكن بالعموم يلزمني أسبوع إلى عشرة أيام، اشتغلت عدة قطع، وما زلت في أوّل الطريق

وتُتيح دورات تعليم الحِرف التراثية، الاطلاع والتجريب والممارسة، لكنها لا تكفي وحدها ليصبح الطالب حرفيّاً، كما يُؤكد الحِرفي "جوني غاريبيان" مدير النشاط التدريبي والتعليمي في الجمعية. ويُضيف لـ"مدوّنة وطن": «الدورات مرحلة أولى للتعرّف على نخبة المُتدربين، مَن لديهم الشغف والإصرار والرغبة في المتابعة، هؤلاء يحتاجون المزيد من الدورات بمستويات أعلى مع التدريب وممارسة الحرفة بين أشخاص مُحترفين ومُختصين».

حماسة الشباب

رند الدبس

ويرى غاريبيان أن ما يتردد عن ضرورة تعريف الشباب بالحِرف والتراث، غير دقيق فعلياً، لأن العمل على أرض الواقع، أثبت اهتمام هذه الشريحة واندفاعها، والمطلوب توفير أرضية مناسبة لها، لإثبات المقدرة والإمكانية. يقول: «خان الزجاج سوق مفتوح للصناعات اليدوية، يسمح للمُتدرّب بالاحتكاك مع الزبائن وأصحاب الحِرف، بالتالي هذه فرصة ثمينة لمن يرغب بالتمكّن، كما حصل مع طلاب تفوقوا علينا وأصبحوا مُدربين وممارسين».

يُشير الحِرفي إلى أنّ الشباب الذين يأتون لاتباع دورة، سرعان ما يصبحون مُقاتلين من أجل الحِرف، ما يعني إمكانية سد النقص الحاصل في أعداد الحرفيين الذين هاجر عددٌ كبيرٌ منهم خارج البلاد، وتوقف آخرون عن العمل بسبب فقدان ورشاتهم خلال الحرب، حتى أنّ بعض الحِرف يمارسها اليوم شخص واحد أو اثنين، إلى جانب تعدد الأخطار التي تواجهها الحِرف التراثية، وأبرزها غياب السياحة منذ أعوام، وصعوبة توفير المواد الأولية للعمل مع انقطاع الكهرباء وغلاء المحروقات.

عائشة الألو

الخزف السوري

قبل خمس سنوات، التحقت "هبة صالح" بالدورات المُقامة في خان الزجاج، ومع أنها طالبة في السنة الخامسة في كلية الطب، ولديها الكثير من الالتزامات، أحبّت أن تتعلّم حرفة القاشاني، مع التعمّق في تاريخها وأنواعها وتفاصيلها، تقول لـ"المدوّنة": «تسمية القاشاني ترجع مدينة قاشان في إيران، التي عرفت الحرفة تقريباً في القرن 13 م، لكنها وُجِدت في سورية منذ القرن التاسع الميلادي، وعددٌ من مشغولاتها عثر عليه في قصر الحير الشرقي في الرقة، تحت اسم الخزف السوري».

تُؤكد صالح أنّ في الحرفة ثوابت لا يمكن المساس بها، وهي الزخرفة النباتية والخط العربي والخيط العربي، لكن البعض حاول تهجين القاشاني الدمشقي بإدخال عناصر من الزخرفة التركية، تحديداً من مدينتي إزنيق وكوتاهيه، كـ"وردة التوليب والزنبقة"، لذلك يجب الحفاظ على القاشاني بأصوله وطريقته الأولى، مع تعليمه للشباب لضمان استمراريته، علماً أنه لم يكن أبداً حكراً على الرجال، إنما مارسته النساء أيضاً.

بدورها "عائشة الألو" خريجة هندسة طبية ومعيدة في جامعة دمشق، تعلّمت الرسم البارد، أي الرسم من دون الحاجة للحرارة في تثبيت اللون كالقاشاني.

شغف التّراث

في الخان التقينا أيضاً "ملاك ونوس"، والتي انضمت إلى الراغبين بتعلّم حرفة تنزيل المينا، قبل سبعة أشهر، تقول لـ"المدوّنة": «قرأتُ الإعلان عن دورات مجانية لتعليم عدة حِرف، ولأنني أُحب ما يتعلق بالخط العربي والرسم، بحثت عن حرفة تجمع كل هذه الفنون، ووجدتُها في تنزيل المينا».

تبدأ ونوس عملها بمد أسلاك على لوح زجاجي، حسب الرسم الموجود ثم تضع مادة المينا، تشرح: «كل قطعة تحتاج زمناً معيناً لإنجازها، لكن بالعموم يلزمني أسبوع إلى عشرة أيام، اشتغلت عدة قطع، وما زلت في أوّل الطريق».

الحرفة ذاتها استقطبت "رند الدبس" خريجة كلية الفنون الجميلة، تقول: «الحرفة قديمة جداً، عمرها يعود لـ 3000 سنة وهي غائبة عن دمشق منذ 70 عاماً، في الخان نتعلمها ونحاول إحياءها من جديد، فيما مضى كانت تُنفّذ على المعادن الثمينة كالحلي المدمج بالزجاج الملون أو تُمد على أسطح زجاجية مُؤطرة بالنحاس، حالياً نعمل عليها باستخدام أسطح زجاجية».

وفي حرفة تصنيع الحلي، لا يزال "إيهاب أبو حامد" خريج معهد سياحي، في طور التعلّم، يقول لـ"المدوّنة": «التحقت بالخان منذ ستة أشهر، ولفتني الاتقان الذي يعمل به الحرفيون هنا، لا سيما في الحلي، لأنها مهنة صعبة جداً وفيها الكثير من التشعبات، عمرها آلاف السنين، صعوبتها كما متعتها في التعامل مع المعادن كالذهب والفضة والنحاس والبرونز، بالنسبة لي الطريق في أوّله ولديّ الكثير لأتعلمه».

سابقاً، عمل أبو حامد في السياحة وترميم الآثار، لكن مجال الحلي هو الأقرب إليه، تحديداً في مُحترَفٍ فيه الخبرة والدراية والحب لكل ما هو تراثي شرقي، على حد وصفه.