مبكراً وبسنوات عمره الأولى أبدعت يدا النحات "جوزيف توتونجيان"، برسم لوحات طبيعية ووجوه شخصيات مشهورة، لتسكن هذه الهواية داخل أعماقه بثبات، ولتشغله عن باقي الهوايات الشبابية الأخرى، طوّر موهبته خلال مراحل الدراسة الأولى برسم المزيد من المناظر واللوحات التي لاقت الإعجاب والاستحسان من مدرس حصة الرسم الذي نصحه بزيادة اهتمامه متوقعاً له مستقبلاً باهراً، لكن "جوزيف" مع براعته في فن الرسم، كان يدور في مخيلته البحث عن وجه آخر من أوجه الفنون التشكيلية ألا وهو فن النحت، وبعد رحلة فنية طويلة وازدياد خبرته النحتية سجل بكلية الفنون الجميلة وتخرج منها بتفوق وهو على أعتاب الستين.

في المرسم

موقع مدوّنة وطن eSyria" زار الفنان النحات "جوزيف توتونجيان" في منزله المرتفع والصغير بـ"حي النيال" والذي حوّله بالكامل مقراً لورشة أعماله وفنونه بالنحت والديكور حيث يقول:<<منذ صغري تعلقت بجمال فن الرسم ومحبة أقلام التلوين ورسم الطبيعة، خلال المرحلة الإعدادية طلب منا معلم مادة الرسم تنفيذ عمل فني متميز يقدم خلال أسبوع، وجاءتني الفكرة بالبحث عن الوجه الآخر لفن الرسم وهو شغل وتقديم عمل "لقلعة حلب"، على شكل مجسمات كرتونية مع نحت مجسم فراغي كامل، وخلال أيام أنجزت العمل، ووضعته على طاولة المعلم منتظراً تقييمه بقلق، وعندما جاء الدور علي، سأل عن صاحب العمل وعندما أجبته بأنني صاحب العمل أثنى علي كثيراً وشجعني على فكرة تطبيق المجسمات والفراغات وطلب مني الاستمرار، ومن هنا طوّرت أعمالي بعمل مجسمات لأبنية وصنع مجسم حسي بالبعد الثالث مع أوجه بشرية، لكن النقلة المميزة لي نحو فن النحت كانت في الاستفادة من معرفة كيفية تطويع أشجار الزيتون في فن النحت سواء بالقسم الهوائي العلوي منها أم بنبش الجذع المدفون تحت التراب واستخراجه، حيث وجدتهما أفضل مكان لإبداع عمل الفنان النحات، مع البحث عن باقي الأشجار الأخرى من الصنوبر والسنديان والسرو والمشمش والتوت، والتعامل معها بنفس طريقة أشجار الزيتون وذلك باستخدام أزاميل خاصة وأدوات جلخ كهربائية>>.

حضور الموهبة

مع تخصصه الفني وبشكل نهائي بفن النحت راح "جوزيف" يجتمع مع كبار الفنانين النحاتين في المدينة، ويتحاور ويستفيد منهم مثل النحات "نعمت بدوي وشقيقه بشير وجوزيف كبابة"، ويشاركهم المعارض الخاصة بالنحت، وفي عام 1981 بدأ بشغل أعمال ومنحوتات تجريدية خالية من شكل محدد، وعرضها بصالة "ماري" للفنون وقدم في ذلك المعرض مع منحوتاته أعماله الديكورية المتخصص بها.

أعمال ترميم تمثال أبو فراس الحمداني مع منحوتات معدنية ومن الجبص.

يقول النحات" جوزيف": <<فن النحت متعب ويحتاج لجهد بدني خارق مع حضور الموهبة، ويمكن لأي خطأ أو سهو أو هفوة أن تتلف العمل وتخسرك قيمته المادية، لذا يجب تشغيل كل الحواس معاً لنجاح عملنا النحتي على الخشب أو المعدن، وكلاهما يحتاج لأدوات خاصة وحادة مسنونة، مؤلفة من أزاميل وسكاكين ومخارط قيمتها المادية مرتفعة جداً، وبالنسبة للمنحوتات الخشبية يتم دهنها باللكر أو السلر أو بالبازوكس كمواد حماية من عوامل الطقس.. أما المنحوتات المعدنية فلها طريقة مختلفة نوعاً ما في شغلها، حيث يتم صبها أولاً على قالب الفخار الطيني على شكل "بورتريه" تحديداً، حتى تأخذ الشكل الذي نريده ثم تُنقل على قالب آخر من الجبصين، وبعد أن ينشف العمل ننسخه ونرسله للسكّاب الذي يقوم بعملية اللحام والتجميع حتى يخرج العمل بشكله النهائي، كما يمكن لنا الاستفادة من المخلفات المعدينة وفوارغ أعمال الحدادين في إعادة تدويرها بالنسبة للبورتريه وشغل الأعمال النحتية والمعدنية>>.

مساهمات ومعارض

بعد خبرته الطويلة في فن النحت والديكور، كُلف "جوزيف" بتجهيز ديكور منزلي رفيع، وعندما علم صاحب المنزل أنه لا يحمل شهادة فنية بالديكور من الجامعة أوقف إتمام العمل معه واعتذر منه، ومن هنا صمم على صقل مقدرته الفنية بشكل علمي وأكاديمي من خلال التحاقه ودراسته بكلية الفنون الجميلة بـ"جامعة حلب"، وتخرج منها متفوقاً في عام 2016 وهو بعمر الـ58 عاماً، وعدّ بوقتها أكبر طالب جامعي، وقدم في مشروع تخرجه لوحة "العالم يرقص"، وبعد تخرجه اشترك بأعماله ومنحوتاته الخشبية والمعدنية والديكورية بأكثر من عشرين معرضاً أقيمت في صالات المدينة، مع ترميم العديد من التماثيل وأهمها تمثال "أبو فراس الحمداني وخليل هنداوي والبحتري" داخل الحديقة العامة، والعديد من المنازل الخاصة، وفي مشاركاته بالمعارض قدم أعمالاً متميزة مثل "العالم يرقص - والصديقان - وشغف - وإلى أين - وجسد - ومولوية من جبصين - والأقنعة - الانفجار السكاني"، ولاقت تلك الأعمال الثناء والتميز وضعت عليها بصمات فنان ونحات جمع ما بين الخبرة والموهبة بتقانة أعماله.

مراحل أعمال النحت على جذوع أشجار الزيتون داخل منزله

ويختم النحات "جوزيف" حديثه للمدونة بالإشارة إلى أن فن النحت هو من اختاره، وكان هو عند الموعد، ومن حبه وعشقه لفن النحت قام بتحويل بيته بالكامل لورشة فنية فيها المنحوتات الخشبية والمعدنية والديكورية يعمل بها ليلاً نهاراً، مذكراً بالمعوقات التي تصادفه وتوقف مسيرته أحياناً من ارتفاع أسعار المواد الأولية مع غلاء أجور السكابين وتكاليف نقل المواد وعدم توفر الكهرباء بالشكل المناسب.

خبرة وإتقان

يقول الفنان النحات "عبد القادر منافيخي": <<"جوزيف" زميلي الدائم والمشارك بالمعارض، هو نحات وخبير وبارع ومتميز في أعمال الترميم، يقدم لنا أشكالاً نحتية خشبية ومعدنية وترميمية ناجحة، أعماله تلقى الإعجاب والإقبال من المتابعين لديه أمكانيات كبيرة وخياله الفني واسع>>.

شهادات فنانين تشكيلين ونحاتين - إبراهيم داوود- خلدون الأحمد - عبد القادر منافيخي.

فيما يثني الفنان التشكيلي" إبراهيم داوود" كثيراً على الأعمال والمشاريع التي يقدمها النحات "جوزيف" ويصفها بالجميلة والمعبرة عن إحساس عالٍ لمكنونات فنان له تجاربه الخاصة والناجحة.

ويقول الفنان التشكيلي "خلدون الأحمد: <<في كل معرض يتحفنا النحات "جوزيف" بأعمال نحتية مميزة سواء كانت على الخشب أم على المعدن، يتمتع برؤية فنية تعطيه التألق والنجاح في أعماله التي يقدمها>>.

بقي أن نذكر أن الفنان النحات "جوزيف توتونجيان" هو من مواليد مدينة "حلب" لعام 1958 حائز على إجازة في الفنون الجميلة قسم النحت في عام 2016.

تم إجراء اللقاء والتصوير داخل منزل الفنان النحات "جوزيف توتونجيان" بتاريخ الرابع عشر من شهر أيلول داخل منزله بحي النيال.