كان للقاعة الكبرى في دار الأوبرا بـ"دمشق" موعد مع المرتل العالمي اليوناني الأشمندريت "كابارنوس نيقوديموس" بالاشتراك مع جوقة "الكنارة الروحية" البطريركية بحضور وزيرة الثقافة "لبانة مشوح" و البطريرك "يوحنا يازجي".

هنا استطاع المرتل العالمي بصوته الأسطوري أن يدهش الحضور، ويبلسم بعض ندوب الحرب، فكانت تراتيله البيزنطية انخطافاً روحياً أيقظ اليقين بأنّ "سورية" ستعود مجدداً كطائر الفينيق.

الطريق إلى "دمشق"

مدوّنة وطن "eSyria" حاورت الأب "كابارنوس"، حول أمسيته البيزنطية في "دمشق" والانطباع العام حول هذا الحدث.

الأب كابارنوس

يقول: "لقد اخترت عنوان الأمسية "وجدنا طريق دمشق"، نسبة إلى مقولة تعود للفرنسيين منذ الحملات الصليبية، وهي أن الشرق الحقيقي يُكتشف في بلاد الشام، وفي "دمشق" خاصة لأنها أول عاصمة بإدارة مركزية في التاريخ وهناك أيضاً بُعدٌ لاهوتيٌّ للتسمية، عندما استعمل غبطة البطريرك "يوحنا يازجي" هذه الجملة أثناء تنصيبه، تزامناً مع الحرب على "سورية"، موجهاً رسالة للعالم أننا وجدنا منبع إيماننا وجذورنا في "سورية" ونتشبث بهذه الأرض حتى النهاية، فأحسست أنها من أجمل التعابير والجمل المناسبة لتكون عنواناً لأمسية بهذا المستوى، ناهيك بالرغبة في أن يذكر اسم "دمشق" في العنوان.. لينتشر عالمياً، ومن يعرف "دمشق".. يبحث عنها.

ويضيف: "تُذكر "سورية" كثيراً أثناء دراستنا للكنيسة المشرقية الحاضرة في تطور الأحداث التاريخية، ومن المحزن ما مرت به "سورية" في سنواتها الأخيرة، ولطالما استغربت التركيز على ما يحصل في "سورية"، ومن يتابع بانتباه يدرك أنها لعبة أممية على هذه الأرض المباركة".

المدرجات المكتظة في أمسية المرتل البيزنطي

محاولات إفشال الزيارة

المرتل كابارنوس مع جوقة الكنارة الروحية على مسرح دار الأوبرا

بث الإعلام السلبي حول "سورية"، كان سبباً لمحاولات عديدة أرادت منع هذه الزيارة خوفاً على سلامة الأب "كابارنوس"، لكن هاجس الزيارة لم يفارقه وهو الذي يحمل في صوته رسالة السلام ونشر الموسيقا البيزنطية التي تحمل في خلجاتها السلام لجميع الشعوب بغض النظر عن انتماءاتهم وأطيافهم، فقرر السفر إلى "سورية" والاتكال على مشيئة "الكل سواسية و ما يصيب أي سوري يصيبه"، خاصة بعد الإقبال الجماهيري الكبير من جميع المحافظات السورية على حضور أمسيته.

بعد انتهاء الأمسية الأولى، وفي صباح اليوم التالي قام الأب "كابارنوس" بجولة في أحياء "دمشق" مشى في أسواقها وقرأ أوجه الناس، لتكون رسالته في الأمسية الثانية على شرف هذه الجملة :"سورية" ليست جرحاً، بل هي قدر لن تغيره سياسات العالم"، لقد لمس نواة المجتمع السوري الذي أثبت قدرته على مقاومة العواصف و الهجمات المتلاحقة، وبالتالي لم تستطع المآرب أن تخترقه كما حصل بالعديد من الدول الأخرى .

"يوحنا الدمشقي"

يشير الأب في حواره مع "esyria" إلى أن القديس "يوحنا الدمشقي" ابن "دمشق" يعدُّ العامود الأساسي للموسيقا البيزنطية ومن أوائل من وضعوا الأسس الأولى لأنماط وقواعد الترتيل البيزنطي للكنائس المشرقية، ومنها انتشر لكن بلغات غربية، وهناك أنواع خاصة من التراتيل تسمى "الدمشقيات" وهي أسس ما كُتب ولُحّن، تدرّس في المدارس اللاهوتية ومدارس الموسيقا البيزنطية في جميع دول العالم بغض النظر عن لغتهم أو خلفيتهم الموسيقية.

التفاعل المؤثر

عبّر الأب كابارنوس عن فرحه و ذهوله مما رآه، من شعب أتعبته الحرب و ما زالت، ومع ذلك حضر إلى دار الأوبرا وسار معه في هذه الرحلة الصوتية، التي تبدأ بمقامات بسيطة ثم ترتفع لتدخل سامعها في حالة نشوة سماوية، فأعطى من صوته وإحساسه أكثر عند رؤيته للتفاعل الصادق في أوجه الحاضرين رغم جهل معظمهم باللغة اليونانية.

وما لفت انتباهه حضور العديد من السيدات المحجبات، وبعض رجال الدين الإسلامي إلى الأمسية، ليتضح له مدى ثقافة هذا المجتمع المنفتح، وذوقه الرفيع، حتى أنه أحب التوسع في الأفق السوري أكثر والتعرف على المولوية الصوفية وتكنيكها الموسيقي، ونستطيع القول إن مهمة أخذ السامع الى سماوات تتيح له العزلة عن كل ما هو سلبي هو قاسم مشترك، أو بمعنى آخر هو تنويم مغناطيسي روحي بشكله الإيجابي الصرف.

الأب "كابارنوس" يعني الكثير للشعب اليوناني" فهو أيقونة في الترتيل البيزنطي، والأوحد بالنسبة لموهبته الصوتيه وعطائه للموسيقا البيزنطية، و عندما بثّت الأمسية مباشرة على القنوات اليونانية، كانت المفاجأة بالمستوى المتقدم على صعيد المسرح والحضور والإضاءة والتكنيك وغيره، وحول ثقافة الحضور والذوق الموسيقي الرفيع لدى روّاد دار الأوبرا.

المهم ومن وجهة نظر الأب "كابارنوس" ورسالته فقد لامست الأمسية مشاعره، وأحب "دمشق" كما رآها هو.

و يختتم الأب "كابارنوس" حواره بالتأكيد على تكرار زيارته لهذا البلد الذي ترك في نفسه الأثر الكبير.

رغم كل شيء

و حول صدى وأبعاد هذه الأمسية يقول المدير العام لدار الأوبرا في "دمشق" وقائد أوركسترا أورفيوس "أندريه معلولي" في حديثه لمدوّنة وطن "eSyria": "دعت دار الأسد للثقافة والفنون (الأوبرا) الأب والمرتل البيزنطي العالمي "كابارنوس" لإقامة حفل للتراث البيزنطي، وبما أن دار الأوبرا في "سورية" تعنى بشكل خاص بتقديم جميع أنواع التراث الإنساني، وتعد الموسيقا البيزنطية من أهم أنواع التراث الموسيقي العالمي، وكان هذا سبب الإقبال الكبير على الأمسية ما استدعى تمديد الحفل ليومين متتاليين، ما يدل على ثقافة عالية للجمهور السوري الذي يترك دوماً انطباعاً إيجابياً لدى الموسيقيين العالميين.. وعنوان الأمسية بحد ذاته إثبات على أن "دمشق" قبلة العالم، بالتالي على أي إنسان في العالم أن يجد طريقها، ونحن نحاول من خلال عملنا الثقافي أن نبرز أهمية "سورية" وإدراجها على خارطة الثقافة الإنسانية.

ويشير "معلولي" إلى مهمة دار الأوبرا بنشر هذه الثقافة الإنسانية المتنوعة، الثقافية عامة والموسيقية خاصة بهدف زيادة الثقافة المجتمعية المتنوعة.

لغة حوار

ويضيف: "واضع قواعد وأسس الموسيقا البيزنطية هو "يوحنا الدمشقي" الذي وضع لها الأسس الأكاديمية وحوّلها إلى ترتيل علمي، ما يعني أن هذا التراث هو تراث سوري ظهر في هذه الأرض وانتقل إلى العالم، ومنها إلى "اليونان وروسيا" وجميع الدول التي تهتم بالترتيل البيزنطي، ومن هنا كان لا بدّ لنا من أن نقول في حفل الأب كابارنوس إن هذه الموسيقا التراثية الإنسانية عادت إلى موطنها الأصلي.

ويبين "معلولي" أن الثقافة هي أساس أي بلد، فهي جسر يبنى مع الآخر، والثقافة والموسيقا هما لغة حوار تعكس ثقافة الشعوب، ومنها نستطيع بث الرسائل ومخاطبة عقول الناس، والملاحظ أن جميع الموسيقيين الغربيين الذين قدموا حفلاتهم في دار الأوبرا، أصبحوا فعلاً سفراء لنا في العالم من خلال تصريحاتهم ورغبتهم بتكرار زيارتهم، ومن هنا نهتم بجميع الأمسيات التي تحييها الفرق العالمية ومنها حفل الأب "كابارنوس" الذي حمل في جعبته الكثير من حب وجمال هذه الأرض، مما ولّد لديه الرغبة بتكرار هذه الزيارة ونحن على موعد معه لإحياء حفل آخر.