غناءٌ وزغاريدُ ونكاتٌ على أغصان أشجار الزيتون في مناطق ريف إدلب الجنوبي، والمشهد الاحتفالي هذا يتكرر في العديد من المدن السورية التي تشتهر بزراعة الزيتون وتمارسه العائلات السورية عند جني المحصول، في بلد يعدُّ واحداً من أشهر بلدان "الشرق الأوسط" المنتجة للزيت والزيتون كماً ونوعاً.

في مثل هذا الوقت من كل عام تجتمع العديد من العائلات السورية عامةً وفي "إدلب" على وجه الخصوص لقطاف محصول الزيتون في أجواء تسودها الفرحة اعتقاداً بأن هذا التجمع هو مدعاةٌ للخير والبركة.

موسمُ القطاف

تعتمدُ آلاف الأسر في محافظة "إدلب" على الزيتون وصناعة زيت الزيتون التي تحتاج لعمالة بات موسم قطاف الزيتون مصدر رزق ودخل كبير لها.

عملية سرب الزيتون

أفراد عائلة الحاج "محمد سعيد اليوسف" بمدينة "خان شيخون" يأخذون إجازات من عملهم ويعودون رفقة زوجاتهم وأبنائهم من المدن المقيمين فيها حيث يسعون لقضاء هذه الفترة من العام في حقول الزيتون مجتمعين.

يقول الحاج "اليوسف" (70 عاماً) في حديثه لـ(مدوّنة وطن) -وهو الذي يملك عدداً كبيراً من أشجار الزيتون في منطقته-: " أحوال كل العائلة تنتعش عندما يكون محصول الزيتون جيداً كهذا العام، لكن عادة ما يخيم الكساد على الجميع إذا جاء المحصول دون المأمول".

القطاف مصدر رزق

وتحتل عمليات جني الزيتون مكانة متميزة في النشاط الفلاحي ليس لاعتبارات اقتصادية فحسب وإنما أيضاً لأنّها رمزٌ لتشبث أكثر من جيل بعادة أسلافه ومواصلة لنشاطهم.

عملٌ ومؤونة

يحرص "صطوف الأحمد" أبو عدنان وعائلته، في مثل هذا الوقت من السنة على عدم تفويت أي فرصة لجني المال من العمل في قطاف الزيتون في موسم حيوي ينتظره الفلاحون في الريف "الإدلبي" إذا صحّ التعبير.

زيت طازج من المعصرة

ويقول "أبو عدنان" (48 عاماً) في حديثه لـ(مدوّنة وطن)، إنه منذ سنوات مضت لم يُضِعْ موسم زيتون واحد يؤمّن فيه مؤونته من الزيت الصافي معروف المصدر، يتابع فيه كل أعمال القطف والعصر من الألف إلى الياء.

وفي كثير من المناطق في ريف "إدلب" بدأ الفلاحون بقطاف ثمار الزيتون إيذاناً ببداية هذا الموسم الذي تتخلله طقوس ومراسيم خاصة.

غير أن "صطوف" الذي يقطن بلدة "سنجار" في ريف "معرة النعمان" المشهورة بزيتونها وزيتها كما القرى والبلدات المجاورة، ينظر لهذا الموسم من زاوية مختلفة، إذ يجد خلال فترة القطاف فسحة مناسبة له لجني قليل من المال.

مصدرُ دخلٍ

ويشكّل الزيتون ركناً مهماً من أركان الاقتصاد "السوري" عامةً و"الإدلبي" خاصة، وعرف في هذه الأرض منذ آلاف السنين كما تقول الروايات التاريخية.

وربّ العائلة هذا وغيره ممن يعملون بموسم قطاف الزيتون يقاسمون مالك الحقل على نسبة معينة من الإنتاج، بعد أن تتم عملية العصر.

ومثل "أبو عدنان" الذي ينطلق وعائلته كل صباح للعمل في حقل الزيتون على طريق المقامة، تفعل كثير من العائلات في معظم أنحاء محافظة "إدلب"، وثمة عائلات تنتقل من منطقة إلى أخرى بعيدة، وتضطر للابتعاد عن منازلها لأسابيع حتى انتهاء الموسم.

وحتى وقت قريب كان الناس ينتقلون من الريف الجنوبي للمحافظة إلى الريف الغربي حيث تكثر زراعة الزيتون وربما يذهبون الى ريف "حلب" الشمالي للعمل في موسم قطاف الزيتون، وقد يقضون هناك أكثر من شهر بتمامه في القطاف.

وفي أوقات أخرى كان البعض ينتقل من محافظة إلى محافظة أخرى، خاصة في المناطق والمحافظات التي تشتهر بزراعة الزيتون للعمل في هذا الموسم والعودة بربح وفير.

مكانةٌ مرموقة

إلى جانب هذا يحظى الزيتون وزيت الزيتون بأهمية بالغة في التقاليد الغذائية والصحية للسوريين حيث يكاد يحضر في كل بيت سوري حتى الفقير منها وفي كل طبق غذائي مهما كان نوعه.

بل إن العديد من "السوريين" يفضلون زيت الزيتون على باقي الأدوية لمعالجة بعض الأمراض مثل التهاب الحنجرة ونزلة البرد الحادة.

ويتحدث لــ(مدوّنة وطن) المعمر "عبد الله الشيحان" -وقد تجاوز عتبة المئة عام ولا يزال يتمتع بصحة جيدة- بفخر عن سر احتفاظه بصحته قائلاً: "أحتفظ بعافيتي لأنه لا يمر يوم دون أن أشرب كأساً من زيت الزيتون في الصباح رغم ارتفاع أسعار زيت الزيتون وعائلتي لا تطهي أي أكلة إلا باستعمال زيت الزيتون دون سواه".

وإضافة لكبار السن الذين يؤمنون كثيراً بفضل هذا المنتج، فإن العديد من الشبان أيضاً ورثوا عن أسلافهم هذه العادات، كما تربط أيضاً العديد من العائلات مشاريعها المستقبلية بإنتاج موسم الزيتون الذي يبدأ نهاية شهر تشرين الأول ويستمر حتى آخر شهر شباط.

ويقول "وحيد طيارة" أحد منتجي الزيتون في "إدلب" لــ(مدوّنة وطن): "أعتقد أنّ الإنتاج وفير هذا الموسم وإذا كان المحصول مثلما هو متوقع فسيكون من السهل علينا مجابهة الغلاء الذي بات يجتاح جميع المواد الغذائية وغيرها .

وتبيع العديد من العائلات المنتجة للزيتون محصولها من الإنتاج لتصريف شؤونها وتبقي على كميات أخرى للاستهلاك وإهدائها للأقارب والجيران.

ثلثُ الإنتاج

وتسهم محافظة "إدلب" في ثلث الإنتاج الإجمالي لـ"سورية" من زيت الزيتون ومن المتوقع إنتاج 155 ألف طن من ثمار الزيتون لهذا العام وبحسب معاون مدير زراعة "إدلب" المهندس "محمد نور طكو" تقدر المساحة المزروعة بأشجار الزيتون في المحافظة بحوالي 128554 ألف هكتار ويصل عدد أشجار الزيتون في المحافظة إلى 14.5 مليون شجرة.

وتوقع "طكو" في حديث لـ(مدوّنة وطن) انخفاض الإنتاج خلال العام الحالي في المحافظة في ظل وجود أشجار غير مثمرة نهائياً، معتبراً أن الإنتاج للعام الحالي سيكون قريباً إلى حد كبير من إنتاج العام الماضي، مشيراً إلى أن ظاهرة المعاومة تعمل على توازن الإنتاج بين عام وآخر حيث أن الأشجار التي لم تحمل الثمار في العام الماضي تكون قد حملت خلال الموسم الحالي والعكس صحيح.

ويبين أن الحالة العامة لأشجار الزيتون جيدة وهناك تساقط بسيط في الثمار نتيجة موجة الحر كذلك جفاف الثمار وقد ظهر ذلك جلياً خلال شهري آب وأيلول الماضيين لافتاً إلى أنّ موعد القطاف سيبدأ مطلع شهر تشرين الثاني القادم.

موسمُ فرحٍ

وكدليل على ما يمثله موسم جني الزيتون من إحياء للتقاليد في العائلة السورية تقام بعض المهرجانات للاحتفاء بشجرة الزيتون مثل (معرض الزيتون المركزي) الذي يخصص كل عام يوماً يشارك خلاله السياح في جني الزيتون وتذوق المأكولات التقليدية للتعريف باختصاصات المطبخ السوري.

ويرى "عبد العظيم سعدو" صاحب معصرة زيت بمدينة "خان شيخون" الواقعة على بعد 90 كيلومترا شمال "إدلب" أن أغلب إنتاج المدينة موجه للتصدير وخصوصا إلى دول "الخليج العربي".