الشاعر الكبير "محمد البزم" واحد من أعلام النهضة اللغوية والأدبية في سورية والبلاد العربية في النصف الأول من القرن العشرين، لم تحظ تجربته الشعرية بالعناية والاهتمام رغم أنه يعد واحداً من شعراء الشام الأربعة, حيث أحب لغته العربية ودافع عنها حتى آخر لحظات عمره.

مدونة وطن eSyria التقت الباحث التاريخي "زهير ناجي" بتاريخ 3/11/2012 فتحدث عنه قائلاً: «"محمد البزم" من عائلة دمشقية من حي "السمانة" بساروجة ولد عام 1887 والده تاجر ماني فاتورة, يعود أصل عائلته التي عرفت بالثقافة والأدب للعراق كما يقول "محمد البزم " في مذكراته "لاأزال أحن إلى بغداد". هو أكبر المربع الذهبي من شعراء الشام الأربعة: "محمد البزم, خير الدين الزركلي, خليل مردم بك, شفيق جبري" توفي عام 1955».

قبل ذلك كنت أقول شعراً وأضع هذه القصائد كي لا تقع بيد أحد من الناس عند والدتي, وعندما انتهت الحرب قلت لها اعطني هذه القصائد فلم أجدها وكنت أخاف أن يطلع عليها أحد

يقول "البزم" بمذكراته: «عشت حياة لاهية ساهية، عملت مع والدي حتى العشرين من عمري، وبعدها تركته وذهبت مع "خير الدين الزركلي" وقد زرت المكتبة الظاهرية ووجدت فيها الشيخ "فتحي الدين الخطيب" القيم عليها, وتعرفت هناك على الشيخ "عبد القادر بدران", وكنت أذهب مع "خير الدين الزركلي" لحلقات الأدباء ورجال الدين وكان بعضهم يعقدون حلقاتهم بالجامع الأموي ومساجد أخرى بدمشق, وكان من يلقي الدروس لا يعجبنا وكنا نتركهم إلى أن اسقطنا على "عبد القادر بدران" فأعجبنا به وقد سميتُ "بدران" السيد والعالم والمثقف والشاعر والأديب, فكنت أحضر له دروس الأدب تحت قبة النسر في جامع بني أمية عام 1900م تقريباً, وقد تم بالوقت نفسه تأسيس "جمعية النهضة" التي كانت تعقد حلقاتها في بيوت أعضائها وفي بعض المساجد كمسجد "الدقاق" الذي تعرفت فيه على النابغة "جمال الدين القاسمي", وكان ممن يحضر هذه الحلقات "عبد الوهاب المليحي، وعبد الرحمن الشهبندر" وغيرهم, وترك "الصالح التونسي" تأثيراً بحياتي بين عمر 20-27سنة».

الباحث "زهير ناجي"

ويتابع "ناجي" الحديث عن الشاعر"البزم" بالقول: «بدأ البزم الدراسة وهو في العشرين من عمره لكنه كان يمتلك موهبة, فأتقن اللغة وعلومها حتى أصبح علماً فيها، ندبه العلامة "كامل القصاب" سنة 1913لتدريس اللغة العربية في مدرسته "الكاملية" وهو في أول عهده بالتدريس، ثم دهمت الحرب العالمية الأولى الناس 1914 فانتظم بالجندية كاتباً في أحد المصحات إلى أن دخلت جيوش الحلفاء سورية».

وهنا يضيف الباحث "ناجي" أن "البزم" قال بمذكراته: «قبل ذلك كنت أقول شعراً وأضع هذه القصائد كي لا تقع بيد أحد من الناس عند والدتي, وعندما انتهت الحرب قلت لها اعطني هذه القصائد فلم أجدها وكنت أخاف أن يطلع عليها أحد».

الشاعر "محمد البزم"

ويؤكد "ناجي": «هذا يعني أنها كانت قصائد وطنية, مضيفاً أنه في هذه الفترة بدأت الثورة العربية الكبرى 1916 وكان إعدام "جمال باشا" لشهداء السادس من أيار وهذا العمل أثار المثقفين الذين كانوا رحبوا بالثورة واعتبروها خلاصهم فدعموها بكل قوتهم وفي ذلك قال البزم:

جزى الله كل الخير خيلاً تتابعت / ترامي إلى أرض الشآم صدورها

"حسان البزم" نجل الشاعر

بوارق من نحو الحجاز تألقت / فحلق في جو الجزيرة نورها

نسائم هبت من جنوب ومغرب / فيولاً فلا هبت بنحس دبورها».

ويتابع: «بدأ "البزم" ومجموعة من الشباب من حزب الاستقلال الرافض للمشاريع الاستعمارية الكشف عن مؤامرة سرية ضد الوطن من قبل حكومة فيصل العسكرية فألقي القبض عليهم لأسباب سياسية وفكرية، حيث قال: لا السجن يردعه ولا أغلاله / عن غاية تسمو لها آماله

مقتوه إذ نقموا عليه جلاله / فسعوا به كي لا يبين جلاله.

وينعى "البزم" أبناء وطنه تفرقهم وتقطع أوصالهم وتخاذلهم ويرى أن الجهال قد سادوا والعلماء قد اختفوا قائلاً:

يا أيها الوطن الذي عبثت به / أبناؤه فترأست جهاله

وتفرقت شيعاً به أبناؤه / وتخاذلوا فتقطعت أوصاله

وعندما رفع العلم السوري بدمشق 1918 قال:

يا أيها العلم اخفق فوق أربعنا / فأي قلب لدى مرآك لم يجب

أذكرتنا العهد عهد الفاتحين بني الـ / سفر البواسل نسل السادة النجب

لما رفعت وجيش الترك منهزم / خلنا الطوائف تقصوا الروم في هرب

لازلت تعلو ربوع العرب ما طمحت / بهم نفوسهم للسبعة الشهب».

ويتابع "ناجي" القول: «إن "البزم" رفض أن يحني رأسه بعد ظلم الاتحاديين وتخاذلهم وكان يقرع ويقسوا على المتخاذلين فقال:

يا منبت العزّ من شام ومن يمن / كم في ربوعك مجد العرب قد مكثا

كانت مساكن قوم إن دعوا وثبوا / أو خاطبوا الدهر أصغى مذعنا وجثا

وقاتل جدّ في نصحي يؤنبني / دع البكاء فكل النوم قد أثبا.

وعندما احتل الفرنسيون سورية قبض عليه بتهمة إثارة الرأي العام ضد الفرنسيين وسجن سبعين يوماً، كما حكم عليه بالسجن عاماً مع وقف التنفيذ وفي ذلك كتب قصيدة كانت بمثابة برنامج عمل يرفض فيه الفرنسي استعماراً لبلاده قال:

أبناء غالية لا كان انتدابكم / فقد أسال دماء العرب غدرانا

لا ترهقوا العرب فالعرب الكرام لهم / إن أرهقوا وثب الضرغام غضبانا

ويابني السين نصحاَ لامراد به / والنصح يسمعه ذو الطيش أحيانا

دعوا الشآم وخلو القاطنين به / ويمموا غير ذي الأوطان أوطانا.

لقد حافظ "البزم" على هذه النفس ومحبة الوطن والدفاع عنه ولم يكن مكروهاً، لكن لم يكن من المرضى عنهم, ونتيجة اعتزاره بكرامته ووطنه سلطوا عليه الكثير من الناس حيث قال "البزم" في ذلك:

تنكب طريقي لا تصبك بوادري / وحاذر يراعي تجنبتك نوائبه

ويكتب لي غمراً وغراً وأخرقاً / وتسلمه عند اللقاء كتائبه.

لقد عشق "البزم" الحرية العربية ورأى فيها سلماً لإحياء تاريخ العرب وإعادة مجدهم، لذلك قضى كل حياته في الدفاع عن هذه اللغة, وكان يراها من أجمل اللغات وأرقها، وفي ذلك قال:

وأعجب شيء يؤلم اللب وقعه / حسوم هي الأرماس في الناس تخطر

يودون وأد الضاد سراً وجهرة / وينكؤهم إن قام للضاد مفخر.

له الكثير من الكتب في الدفاع عن لغة العرب منها "كتاب في اللحن, النحو الواقع, الجواب المسكت, الجحيم"، وتميز الخط العام لهذه الأعمال بالدفاع عن اللغة العربية، أما شعره فكان شعراً وطنياً بامتياز, لقد عبد القضية الفلسطينية وما تخلى عنها أبداً ولم يتكسب بالشعر أبداً ومات فقيراً.

كتب العديد من المقالات التي نشرت في الصحف والمجلات في سورية ومصر ولبنان وأبرز مجلة كتب فيها بدمشق كانت مجلة "الميزان" لصاحبها "عبد الكريم الكرمي", وكان ينتقد في أغلب كتاباته المتحاملين على اللغة العربية وعلى تاريخ العرب وكل من حاول تشويه اللغة العربية».

وفي ذلك قال عنه "ظافر القاسمي": «عشق الفصحى وفني فيها, فما عهدناه تحدث يوماً بغيرها في مكتب "عنبر"، وقد أطاعته في الحديث أكثر مما أطاعته في الشعر والنثر وكانت تتدفق على لسانه كالرحيق السلس, كان له غرام باختيار الألفاظ كالصائغ الماهر الذي يحسن تنسيق الجواهر النفيسة ويؤلف منها حليته, أما تركيب جمله فكان نسيج وحدة لايكاد يقلده فيه أحد, وإني لأعجب اليوم من شيخنا البزم كيف كان يملك زمام هذه اللغة في الحديث سواء مدرساً أو مناقشاً أو محدثاً أو واقفاً أو ماشياً».

عرف "البزم" نوابغ طلابه وأفادوا من الفوائد واستقرت له في أفئدتهم صورة جليلة، انتخب 1942عضواً عاملاً في المجمع العلمي العربي وكان ذلك تتويجاً لسيرته الحافلة في بناء نفسه ودعي في أعقاب ذلك لإلقاء محاضرات في النحو في "دار المعلمين العليا". وعن صفاته الشخصية كما وصفها تلميذه "القاسمي": «كان مديد القامة من غير سوء, هادئ المشية في غير تثاقل, عصبي المزاج كثير الاعتداد بنفسه, سريع الانفعال, حاد الذكاء, ألف الفصحى حتى لايكاد يعرف غيرها لغة للخطاب, حريصاً على كرامته حرصه على حياته, عرف عنه الناس جميعاً الإفراط في الإحساس والسرعة في التأذي فجامله محبوه وراعى مزاجه زملاؤه, متسامحاً داعياً لاحترام الديانات وفي ذلك قال:

وفرقانها للخير يدعو وقبله / دعا مثلها إنجيلها وزبورها

هو الجهل كم أردى شعوباً وكم هوت / بها أمم بادت فساء مصيرها».

ويختتم "ناجي" حديثه بالقول: «يمكنني القول إن "البزم" عشق العرب والعروبة, أسلوبه أسلوب الشعراء الجاهليين وشعراء العرب من العصرين الأموي والعباسي, كان معجباً بالمتنبي لذلك يصفون شعره بأنه كان شعراً عربياً خالصاً يتهمونه أنه ينحت من صخر وأنا لا أرى ذلك, وبرأيي هو شاعر القضية الوطنية الذي لم يهن ولم يتعب ولم يتراجع حتى آخر لحظة من حياته, لذلك يجب أن يكون قدوة للأجيال الجديدة وذلك بنشر ديوانه وأفكاره وتعرف الناس به».

عنه قال نجله الحقوقي "حسان": «توفي والدي وأنا في العشرين من عمري وما أتذكره أنه بقي ما يزيد على ثلاث سنوات في المشفى نتيجة مرضه, هو أب مثالي شخصيته جذابة ربطته بتلاميذه الدكتور "ماجد العظمة, نزار قباني، إبراهيم حقي" علاقة وطيدة حيث ترددوا عليه أثناء مرضه واتسمت علاقتهم بالتفاني والإخلاص معه، كان شخصاً واقعياً وناقداً لاذعاً، له في مجال مهنته عداوات كثيرة ولاسيما أنه كان شاعراً ونحوياً وأديباً، أحب من الرياضات "الشطرنج، والبلياردو"».

تلميذه الدكتور "إبراهيم حقي" قال عنه: «كان مربياً فاضلاً لم يبخل بعلمه على أحد, ولم يتقيد يوماً بمفرد دراسي أبداً، وكان الشعر جزءاً رئيسياً أثناء وجوده مع طلابه, فلم يكن يخلو كلامه من بيت شعر يسمعنا إياه, ولكن للأسف لم يلق معلمي التكريم في حياته ولا في مماته مع أنه لم يبخل بعلمه على أحد».

  • يذكر أن الشاعر" محمد البزم" كان وحيد والديه، له ثلاثة أولاد توفي اثنان منهما وبقي ابنه "حسان" على قيد الحياة.
  • توفي البزم عن عمر ناهز 68 عاماً في 12 أيلول 1955.