ربما قدره صمّم له أن يكون باحثاً في الموسيقا السوريّة، ومُؤرشفاً للنادر منها، ومُتابعاً للنفيس والباحث عن أصل اللحن والكلمة، ربما قدره معنا أن يكون معنا باحثاً يُشار له بالبَنان، إنه "أحمد بشير بوبس" المولود في "حي الميدان" أحد أحياء "دمشق" في العام 1946.

موقع eSyria التقاه وكان هذا الحوار المليء بالنفيس من المعلومات، ولكن لا بد أن نسأله عن النشأة فيقول بصوته المميّز: «ولدت في حي يحتفظ بالكثير من عاداته كما شاهدنا بعضاً منها في مسلسلات البيئة الشامية "باب الحارة" على سبيل المثال، ومنذ نعومة أظفاري وأنا أستمع إلى الراديو الموجود في بيتنا، وهو صلة الاتصال الوحيدة في ذلك الوقت، هذا الراديو الذي أدخل في حواسي ومشاعري الأغنية الشعبية حتى تشربتها، وكنت من الأولاد الذين يحبون المشي في العراضات التي كانت تقام في مناسبات مختلفة».

أولاً: التخصص، ثانياً: التعمق في المجال الذي اختاروه، ثالثاً: أن يكون للصحفي أرشيف يستند إليه

ويتابع حديث ذكرياته عن طفولته فيقول: «كان هناك العديد من الأغنيات الشعبية خاصة التي تغنى في حفلات "الختان- الطهور" وكان الولد في ذلك الوقت لا يختن حتى يبلغ السابعة من عمره، وربما كنت أنا من الأطفال الآخيرين الذين ارتدوا "القمباز" و"الطرحة" دلالة "الختان" وكانوا يسيرون بنا في الشوارع معلنين أن ولدنا أصبح رجلاً، يستمر هذا الطقس لأسبوع بأكمله يبدأ حيث تحضره النساء قبل ثلاثة أيام من موعد "الختان" كل هذا كان له تأثيره الداخلي على حبي للموسيقا وارتباطي بها».

"أحمد بوبس" الشاعر والباحث والصحفي

وعندما سألناه عن أول أغنية سمعها من الراديو الصغير وتعلق بها، قال: «في منتصف الستينيات من القرن العشرين ظهرت مطربة سورية الأصل اسمها "نجاة الصغيرة" أحدثت نقلة في أسلوب الغناء من خلال أغنيتها "القريب منك بعيد" وتتالت أغنياتها، لقد علقت في ذاكرتي هذه الأغنية».

أما بدايته مع الموسيقا فكانت من خلال المدرسة، حيث إن أساتذة رفيعي المستوى تناوبوا على تدريسه وهو طالب في إعدادية "أسعد عبد الله"، فيقول: «من اللافت في تلك الأيام أن إدارات المدارس كانت تهتم باكتشاف مواهب الطلاب، وكنت حينها أنشر ما أكتب من قصائد في مجلة الحائط المدرسية».

"سيد درويش" تتلمذ في حلب

ويكمل: «وفي العام 1968 نشرت لي أول قصيدة في مجلة "الطليعة" بعدها بسنوات نشرت لي صحيفة "تشرين"، ثم بدأت أنشر مقالات في صحيفة الثورة وكان الراحل "ممدوح عدوان" مسؤول الصفحة الثقافية، فكلفني بتغطية فعاليات "مهرجان مسرح الهواة" في "صالة الحمراء"، بعد "عدوان" تسلم الراحل أيضاً "رفيق أتاسي" هذه الصفحة، وطلبني رئيس التحرير حينها الأستاذ "أحمد الحاج علي" الذي عرض علي أن أصبح موظفاً في جريدتهم، فوافقت وأنا الموظف في وزارة النفط، ولم يتردد الدكتور "عبد الجبار الضحاك" وزير النفط حينذاك بندبي إلى وزارة الإعلام، فكانت بداية جديدة مع الصحافة».

ويتابع: «أعتبر أن "ممدوح عدوان" صاحب فضل كبير عليّ لأنه فتح المجال أمامي لأنشر قصائدي ومقالاتي، و"صميم الشريف" دفعني لكتابة المقالة الموسيقية».

عضواً في لجنة تحكيم مهرجان إدلب

لكن العمل في البحث الموسيقي لا تكفيه كتابة المقالة، أو حضور النشاطات الموسيقية لذلك اعتمد "بوبس" على عملية الأرشفة وبمستويات مختلفة "أرشفة المقالة- الكتب الموسيقية- الصور- والتسجيلات"، ويتحدث عن مصادر الأرشفة التي اعتمد عليها، فيقول: «محبة الناس قدمت لي الفائدة، والأستاذ "سليم سروة" كان من الذين زوّدوني بالصور النادرة حتى وصل سماكة ما أعطاني إياه من الصور /10 سم/، ومثله فعل "إبراهيم جودت" أضف إلى ذلك أنني كونت شبكة من العلاقات مع أشخاص مهتمين بجمع الاسطوانات الموسيقية من بينهم الدكتور "مروان منصور" وهو من "طرطوس" دامت صداقتنا سنتين على الهاتف دون أن يرى أحدنا الآخر، حتى التقينا في "مقهى الكمال"، وكثيراً ما زودني بأسطوانات أتى بها من مصر ولبنان، ومن النوادر التي يحتويها أرشيفي مقررات وتسجيلات "مؤتمر الموسيقا العربية" الذي عقد في "القاهرة" في العام 1932».

من هنا ينصح "أحمد بوبس" كل الصحفيين أن ينتبهوا لثلاثة أمور في حال كانوا يسعون إلى التميز، فيقول: «أولاً: التخصص، ثانياً: التعمق في المجال الذي اختاروه، ثالثاً: أن يكون للصحفي أرشيف يستند إليه».

ويعتبر "أحمد بوبس" من الباحثين الموسيقيين القلائل في سورية، لذا عمل في الإذاعة السورية على تقديم برنامج موسيقي "صناع النغم" تحول بعد عشر سنوات إلى "حكاية أغنية" يقول عنه: «لم أستضف فيه أي موسيقي باستثناء إحدى الحلقات التي استضفت فيها الملحن "محمد محسن" عام 1996 إثر صدور ألبوم السيدة "فيروز" وله فيه أربع أغنيات من ألحانه».

أما الواقع الموسيقي كما تراه عين الخبير المهتم، فهو لا يسر، هكذا يقول "أحمد بوبس" فيقول: «لا شيء يستحق ذكره، ولو أردت الكتابة في الغناء الحديث لتوقفت عن الكتابة، ولكن لا أنفي وجود بعض الإضاءات هنا وهناك "سمير كويفاتي"، "ميادة بسيليس"، "هالة أرسلان"، "ليندا بيطار" "رشا رزق"، وغيرهم ممن اجتهدوا على أنفسهم، ما يؤسف في الأمر أن الأصوات الجادة لا تأخذ فرصها في الإعلام، بينما الأصوات الهزيلة تتصدر الشاشات التلفزيونية، فيما مضى من وقت كانت الإذاعة السورية مصنعاً للنجوم، وكذلك الإذاعة المصرية، واللبنانية، اليوم ومع ازدياد القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية بتنا نتعرف في كل يوم على مطرب أو أكثر، وأضع خطين تحت كلمة مطرب».

وانتقد الأستاذ "أحمد بوبس" كل الذين سوقوا لفكرة أن اللهجة السورية لا تغنى، وقال: «أنا ضد أن يغني المطرب أياً كانت جنسيته لهجة غير لهجة بلده، فمهما كان بارعاً لن يكون متقناً للهجة كأهلها، فعندما أريد الاستماع إلى أغنية خليجية أذهب إلى "طلال مداح" أو "محمد عبده" ولا أبحث عن سوري يغني اللهجة الخليجية وقس على ذلك في مختلف اللهجات».

ويضيف: «من المنابر الإعلامية التي ما زالت تحترم الفن الأصيل والجميل هي إذاعة "لندن" BBC لذا أكن لها كل احترام من هذا الجانب، بينما تجد أن الكثير من المواد المسجلة في أرشيف الإذاعة السورية تعرضت للمسح، فقط يمكن القول أنه لا يوجد وعي لأهمية التراث، أو يمكن القول أن هناك وعياً نظرياً فقط وهذا لا يكفي».

ولكن ماذا عن دور المعهد العالي للموسيقا الذي يخرج العديد من الطلاب الذين تعلموا الموسيقا الغربية، يقول: «الخطأ الكبير الذي ارتكب في المعهد العالي للموسيقا في البداية أن ألغي تدريس الموسيقا العربية فيه، فكان تواجد الموسيقا العربية فقيراً في المعهد العالي للموسيقا، لكن بعضاً من الخريجين طوروا أنفسهم بجهد شخصي، وأعتقد أن الوضع بدأ يتحسن في هذا الاتجاه».

ولم يسلم "الأورغ" من انتقادات الأستاذ "أحمد بوبس" فقال فيه: «هو كارثة على الغناء العربي، وللعلم هو آلة غير معترف بها في الغرب، هو وكل الآلات الموسيقية الكهربائية، لأن التدخل التقني يغير من صوت الآلة، باختصار "الأورغ" آلة تجارية صنّعت للملاهي والمرابع الليلية».

من مؤلفات الباحث والشاعر والصحفي "أحمد بوبس" أربعة كتب مطبوعة وخامس تحت الطبع، يذكرها لنا فيقول: «صدر لي كتابان دفعة واحدة الأول عن "سيد درويش" والثاني عن "رفيق شكري" في العام 1992، وسبب اختياري لـ"سيد درويش" لما لمدينة "حلب" من فضل عليه، وهذا ما يغفله الإخوة المصريون، فكلها تتجاهل زيارة "سيد درويش" إلى "حلب" ومكوثه فيها سنتين تعلم خلالها الموشح، والعزف على العود، وقد تتلمذ على يد الموسيقي السوري "عمر البطش"، كان علي أن أكشف هذا الأمر وقد فعلت».

ويتابع: «أما الكتاب الثالث الذي صدر في العام 2005 فتناولت فيه شخصية "سلامة الأغواني" مبتكر "المونولوغ" الناقد وقد بدأه في العام 1927 منتقداً سياسة الاحتلال الفرنسي في سورية، والواقع الاجتماعي بعد الاستقلال».

أما كتابه الرابع فخصه عن الموسيقي السوري الراحل "محمد محسن" الذي لحن لكبار المطربين في سورية ومصر ولبنان.

ويبقى كتابه الخامس الذي ينتظر الضوء وهو "فلسطين في الأغنية العربية".

وحول وفرة الكتب البحثيّة الموسيقيّة في المكتبة العربية، قال: «مكتبتنا ليست فقيرة، يوجد دراسات جديرة بالاهتمام، ولكن ما يعيبنا هو عدم وجود مؤسسات تعنى بالأبحاث الموسيقية، كل ما هو موجود نتيجة جهود شخصية ومبادرات فردية، فمن المؤسف ألا يوجد سوى باحثين اثنين من سورية في ندوة حول مسيرة الشيخ "علي الدرويش" نظمتها "دار الأوبرا" السورية، بينما تواجد خمسة من تونس كلهم يحملون شهادات عليا في الموسيقا، اذكر منهم الدكتور "مراد الصقلي" وقد قدموا الشيء الكثير عن فن "علي الدرويش"».

لم يستطع الاختصاص الذي درسه "أحمد بوبس" وهو علم الرياضيات أن يأخذه من السلّم الموسيقي الذي لطالما ارتقى درجاته بأبحاثه الجادة ونتاجه الإبداعي.