عندما دخلنا منزلها استقبلتنا بلطفها وطيبتها، وعندما استمعنا لحديثها نقلتنا إلى عالم غابر فيه من الحب والنقاء بقدر ما فيه من التعب والشقاء.
أم يوسف امرأة تجاوزت الثمانين، ربت مع جيلها دود القز وصنعت من شرانقه المنديل الذي تعتز به كل امرأة ريفية في الساحل السوري.
عبرeLatakia حكت قصة أمومتها لهذه الشرانق عبر أجيال وأجيال، وفي وجهها الحنين والشوق إلى ذلك الزمن الغابر.
تقول أم يوسف: "كنا نشتري علبة بحجم كف اليد فيها بيض فراشة القز ونسميها بذور القز، تكون تلك العلبة مثقبة ثقوباً صغيرة ليتمكن البذر من التنفس داخلها، وتكون البذرة الواحدة بحجم بذرة نبات التبغ، حيث تضعها المرأة في صدرها لمدة أسبوع كامل يمر فيها البيض بعدة مراحل تعتني بها المرأة كما لو أنه طفلها الصغير وبعد أن يفقس البيض تنام الدودة أربع "نومات"، تسمى الأولى (نومة الشعرة) نظراً لحجم الدودة الصغير وفي هذه المرحلة نقوم بقطع أوراق نبات التوت إلى قطع صغيرة كما يقطع التبغ قبل وضعه في لفافته (السيكارة)، أما الثانية تسمى (الخضيري) وفيها تخضر الدودة قبل أن تتحول إلى مرحلة (النقيشة) في حين تسمى المرحلة الأخيرة (نومة الحمرة) وفي هذه المرحلة يصل طول الدودة إلى ما يقارب العشر سنتمترات ونكون عندها قد حضرنا له العرازيل المصنوع من الخشب التي فيها (الإكليلة)، والإكليلة هي قضبان محضرة من الريحان توضع في ثلاث طبقات، بعد أن تصعد الدودة على قضبان الريحان تبدأ بنسج الشرنقة، وهذه الفترة تستغرق أسبوعاً واحداً.
كنا نحصل على قضبان الريحان بالذهاب إلى منطقة تسمى (حشيش بيت عانا) بحيث نقطع قضبان الريحان وننظفها هناك ثم نأتي بها لنجففها قبل أن نضعها في هذا العرزال.
بعد مرور أسبوع نجني محصول الشرانق نجمعها عن قضبان الريحان وتفوح منها رائحة عطرة جداً وتصبح عندها جاهزة للبيع، بحيث يأتي التاجر الذي أعطانا البذرة ليشتريها منا مجدداً، وعندها يبدأ بانتقاء ما يروق له بعد أن يقوم باختبار الشرانق، يقوم بذلك من خلال خض الشرنقة والاستماع إلى صوتها ويجب أن يسمع صوت الفراشة ضمن الشرنقة كما يسمع صوت الجوز عند خضه، البعض يكون مريضاً فلا يشتريه، بعدها يحدد الأسعار.
في الماضي كان الحرير الذي ننتجه من الشرانق أصفراً وبعدها بتنا نربي الدودة التي تنتج الحرير الأبيض والسبب هو أن من يبيعنا بذر القز لنربيه طلب إنتاج هذا النوع عوضاً عن ذاك الذي يعطي حريراً أصفر.
وتتابع أم يوسف: "أذكر أننا قمنا بتبديل هذه (البذرة) عندما كان ولدي أبو زياد في الصف التاسع!"
سألنا أم يوسف إن كانوا يربون هذه الدودة لديهم ويستخرجون بيضها أم أنهم كانوا دائماً يشترون هذا البيض من التاجر فقالت: "لقد كان هناك أيضاً من ينتج هذه البذور في القرية وخاصة عندما لا ينجحون في بيع كامل المحصول، فكانت تخرج فراشة من الشرنقة توضع على قماش ثم تقوم بوضع بيوضها عليه.
وترى أم يوسف أن الحرير الأبيض كان مرغوباً لميزة فيه وهو أنه كان يستخدم لصنع مظلات القفز المظلي ثم تكمل حديثها عن الشرانق المتبقية: "إذا بقي عندنا شرانق لم نستطع أن نبيعها كان يأتي شخص آخر من قرية القلاع ويحل هذه الشرانق بطريقته لنقوم نحن بغزل هذا الحرير لاحتياجاتنا الخاصة والتي كان أهمها صناعة مناديل الحرير، وصناعة المناديل كانت تحتاج لجهد وصبر، أما أدواتنا فكنا نستخدم (المشركة) لنضع عليها الشرانق المنحلة وبعد أن ننتهي من شرك ذلك الحرير الناتج، نبدأ عندها بغزله على المغزل.
بعد الانتهاء من الغزل نبدأ بآخر مرحلة وهي مرحلة النسج.
أم يوسف صنعت الكثير من هذه المناديل التي تشكل مصدر اعتزاز لدى المرأة الريفية في الساحل السوري وهي مازالت تصنع هذا المنديل حتى أيامنا هذه رغم طعنها في السن،
ورغم أن الحرير لم يعد أحد ينتجه في القرية على الإطلاق بل يقومون بشرائه من مكان آخر وهي لا تنسج لتباع بقدر ما تقوم بذلك تلبية لرغبة أبنائها وأصدقائهم الذين يرغبون باقتناء هذا المنديل نظراً لقيمته ولأهميته في التراث الريفي الساحلي.