اعتاد الحلبيون رؤية رجال أحيائهم وهم يتسابقون ويتزاحمون لترشيح أنفسهم لتسلم مهام المخترة في الأحياء، نظراً لما لهذه المهنة من مسؤوليات وتوابع إدارية وخدمية لا يقدر على تنفيذها سوى الرجال، حيث يُطلب من المختار الدوام والوجود في مكتبه وعلى فترتين صباحية ومسائية، إضافة لمتابعة باقي الأمور الخدمية الأخرى المتعلقة بأبناء الحي في دوائر الدولة المتعددة، فضلاً عن دور المختار في إصلاح ذات البين بين أبناء الحي وحضور المناسبات الاجتماعية.

بنت المختار

قد تبدو هذه قاعدة عامة، لكن استثناءها كان على يد السيدة "كارول جوزيف جانجي" التي أقدمت على ترشيح نفسها لتسلم مهام المختار في حيها "الهزازة" وتوابعه، وأكملت المفاجأة بقبول ونجاح ترشيحها وتسلمها لتلك المهمة.

مختارتنا مميزة بنشاطها، لا تتوانى عن تقديم الخدمات ومساعدة أبناء الحي ومن واجبنا جميعاً التعاون معها وتسهيل مهمتها حتى تتحقق وتصل الخدمة للجميع

موقع مدونة وطن "eSyria" زار مختارة حي "الهزازة" في مكتبها واستمع منها لقصة شغفها وحبها وتعلقها وحلمها الذي تحقق بأن تصبح أول مختارة في مدينة "حلب".

مكتب المختار بحي النيال

تقول "كارول": «عمل المختار ومهامه ليس أمراً غريباً عني حيث أعرف الكثير من التفاصيل من خلال عمل والدي المختار السابق لحي "النيال" و"الحميدية"، حيث بقي في هذه المهمة لمدة طويلة، وكان يعرفه جميع أبناء الحي، وكنت في كثير من الأوقات أذهب معه لمكتبه وأجلس بجانبه، وأتابع طريقة تعامله الخاصة مع أهالي الحي، ومن أهم ميزاته وصفاته التي كان يتحلى بها الهدوء والتعامل الأبوي والأخوي مع الجميع حيث يستقبلهم ويودعهم بالكلمة الطيبة والابتسامة، ويحرص على حل مشاكلهم الخاصة والعامة بروح مرحة، وبقي والدي في مهامه حتى عام 2013، ونتيجة ظروف الحروب واشتداد المرض عليه لم تعد لديه القدرة على الدوام في مكتبه، فقام بنقل كل مهام عمله لداخل منزلنا القريب من مكان المخترة، وهنا أصبحت بمنزلة الساعد الأيمن له باستلام المعاملات من أبناء الحي، والاطلاع عليها وكيفية إنجازها بشكل صحيح، وكنت أردد أمامه "حابة يجي يوم وأستلم فيها مهام المختار"، وكان والدي يضحك كثيراً عندما يسمعني أقول تلك الجملة، ويرد علي بالقول "هذه مهنة صعبة ومرهقة ولا تصلح للنساء، ومخصصة للرجال فقط وهم الأنسب لها" حتى كانت وفاته في نهاية عام 2015».

الحلم يتحقق

ظل هاجس وشغف تسلم مهام المخترة في الحي الذي كان يعمل به والدها، عالقاً داخل أعماق الصبية الحالمة "كارول" لذلك لم تتردد لحظة واحدة في تقديم أوراق ترشحها لدخول هذه المهمة، كان ذلك في عام 2016 لتتم الموافقة على ترشحها في الشهر الثالث من عام 2017.

المختارة وسط أبناء الحي للمساعدة في توزيع المحروقات

تقول المختارة: "منذ بدء تكليفي كنت في غاية الحماسة والنشاط والسعادة للتصدي للمهمة، ووضعت نصب عيني تقديم الخدمات المتنوعة لأبناء الحي والبالغ عددهم ثلاثة آلاف عائلة موزعين على أربعة أحياء متلاصقة هي "الهزازة" و"السيد علي" و"النيال" و"قسطل حرامي" .

مهام مضاعفة

وتتابع "كارول" حديثها للمدونة: «مع أول يوم دوام لي في مكتبي الجديد والذي هو مكتب والدي الراحل نفسه، أحسست بالمسؤولية المضاعفة، في البدء تفاجأ أهالي الحي من سبب وجودي وجلوسي خلف طاولة المختار، حيث أنهم اعتادوا رؤية الرجال تتسلم تلك المهمة، والشيء الجميل الذي لا أنساه في حياتي وقوفهم ومساندتهم لي جميعاً عندما علموا بتكليفي بمهام المختار للحي، وبالمقابل كنت أرد عليهم بأني أتيت هنا لخدمتهم وبأننا جميعاً سنكون يداً واحدة لتذليل الصعاب وتقديم الخدمات الضرورية والحرص على بعضنا البعض في الظروف الصعبة وزمن الحرب».

شهادات أبناء الحي عن مختارتهم جهاد محجوب - بشار عزيزي - محمد لوك

خدمات ضرورية

وتعدد "كارول" أهم الخدمات التي يحتاجها أبناء الحي من (اخراجات قيد - وشهادات تعريف - وولادة ووفاة - سندات إقامة)، وحرصت المختارة في بداية تسلم مهام عملها وبالتعاون مع أعضاء لجان الحي، على ترتيب وتنظيم كل الأمور الخدمية لأبناء الحي بعدالة وخاصة في توزيع المحروقات من (مازوت وغاز)، ومتابعة وتصوير الأبنية والأنقاض الخطرة وإعلام لجنة السلامة العامة بالمحافظة عن تلك الأبنية وضرورة معالجتها، وكذلك الاهتمام بأمور النظافة والصحة في الحي، والتواصل مع مجلس المحافظة لأجل رش المبيدات للقوارض والحشرات، والذهاب للمدارس ومساعدتهم على تأمين المياه النقية لخزانات مياه الشرب، وحضور اجتماعات أولياء الطلاب لمساعدتهم وإيصال همومهم والمعوقات للجهات المسؤولة وإيجاد الحلول لها.

تكرار التجربة

وتختم "كارول" حديثها للمدونة بالقول «في بلادنا المرأة طموحة وذكية وذات شأن ورفعة، حيث وصلت وتقلدت أهم المناصب السياسية والعلمية والاجتماعية في مفاصل الدولة، وأثق تماماً بأن الكثير من النسوة مثلي من أبناء بلدي لديهن القدرة على تحمل المسؤولية والصعاب، وتقديم الخدمات لأبناء المجتمع، وأنصح أي سيدة لديها الدافع والحماسة والنشاط أن لا تتردد بالعمل وتكرر تجربة تسلم مهام المختار، فالغالبية من أبناء مجتمعنا سيكونون عوناً لها وفي جانبها لتقديم المساعدة عند الحاجة، شريطة أن تتمتع بالحياد ومحبة وثقة أبناء الحي، وفي مثل هذه أجواء لا شك أن النجاح سيكون حليفها مهما كانت العوائق والصعوبات».

أدق التفاصيل

بدوره "جهاد محجوب" مدرس تربوي متقاعد يصف مهام المختارة "جانجي" بالتجربة الفريدة والناجحة لأنثى تتسلم تلك المهام لأول مرة في مدينة "حلب"، وأضاف هي نشيطة تستيقظ وتوجد في مكتبها باكراً، ومتابعة لكافة الأمور الخدمية لأبناء الحي وحتى في أدق التفاصيل، ويشهد الجميع بوجودها في الساحة الرئيسية للحي أثناء توزيع المحروقات من غاز ومازوت وتتظيم الدور بعدالة، وهي محبوبة من الجميع، تستقبل المراجعين وتودعهم بالابتسامة والكلمة الطبية.

فيما يقول "بشار عزيزي" 35 عاماً: «مختارتنا مميزة بنشاطها، لا تتوانى عن تقديم الخدمات ومساعدة أبناء الحي ومن واجبنا جميعاً التعاون معها وتسهيل مهمتها حتى تتحقق وتصل الخدمة للجميع ».

أما "محمد لوك" بائع الخضار 38 عاماً، فوصف المختارة "كارول" بالأخت الحقيقية لأبناء الحي، من خلال معاملتها الحسنة وعدم محاباة ناس على حساب الآخرين، وما يميزها وقوفها مساعدتها المحتاجين وتوفير كل مستلزمات الخدمية لهم.

بقي أن نذكر أن المختار "كارول جوزيف جانجي" هي من مواليد مدينة "حلب" لعام 1974 دارسة في كلية الاقتصاد.