قد لا يعلم كثيرون من أبناء الجيل الحالي ما معنى أن تذهب لخياط اللباس العربي قبل أسبوع من مناسبة معينة، مثل الأعياد أو حفلات الزواج والسهرات، وكيف كان يبدأ بفتح دفتره وتدوين اسمك في أعلى الصفحة وتناول متره القماشي من بين كتفيه والبدء بقياس خصرك وأكتافك، وطول بنطالك من الزر إلى أخمص قدميك بما يغطي واجهة الحذاء.

ذكريات أيام زمان وحكايا وخفايا خياطي اللباس العربي سمعناها ودوناها من القلة القليلة المتبقية في مدينة "حلب"، ممن يحافظون ويمارسون ويتمسكون بتلك المهنة الراقية.

والدي من أمهر خياطي اللباس العربي، وأنا أحببت تعلم المهنة على يديه لما لهذه الحرفة من فن ومهارة، وبالوقت ذاته كان هدفي المحافظة على هذا الأثر الجميل من ماضينا كي لا يندثر في لحظة وغفلة

طقوس المهنة

البداية كانت مع أحد خياطي اللباس العربي "براء خوجة" الذي يشرح للمدوّنة تفاصيل يومياته مع المهنة ومما سمعه وتعلمه من والده الحاج "محمد" الذي يعد بدوره من شيوخ الكار لخياطة اللباس العربي قائلاً: «تعلمت مهنة خياطة اللباس العربي في محل والدي هنا بحي "الفيض"، ووالدي بدوره -كما حدثني- تعلم المهنة على يد معلمه الحاج "مصطفى عزيزي"، الذي كان يعد من أشهر خياطي اللباس العربي بمدينة "حلب"، وكما روى لي والدي عن الزمن السابق وقبل أكثر من خمسين عاماً من الآن، فقد اهتم أبناء مدينة "حلب" بزينتهم وحبهم لارتداء وتفصيل هذا النوع من اللباس المطرز في مناسبات الأفراح والأعياد، ويبدأ التفصيل بقطع وشراء قطعة من نوع القماش الذي يريده صاحبه من محلات تجار سوق المدينة، ثم يأتي بها ويعرضها على خياطه الخاص، ويتفقدان معاً النوعية والطول والعرض، ويسأله الخياط ماذا يريد أن يفصل (جاكيت) مع الجلابية أم (جاكيت) مع البنطال على شكل طقم، وكل شخص يختار حسبما يحب، وبعد الاتفاق تحدد قيمة الأجور، وبعدها يبدأ الخياط بأخذ المقاسات بمنتهى الدقة، وبعد الانتهاء من أخذ المقاسات يطلب منه الخياط الحضور بعد أيام لأجل أخذ مقاس ثانٍ قبل إتمام التفصيل النهائي، ويعدُه بعد أيام قليلة قادمة لاستلام لباسه جاهزاً ومفصلاً ومكوياً».

شيخ الخياطين محمد موفق السلاح

فوارق

(جلابيات) بتفصيل خياط عربي

وبما أن مهنة خياطة اللباس العربي لها رونقها وطابعها، فهي تحتاج لمدة زمنية أطول من تفصيل اللباس العادي، فمثلاً تفصيل خياطة (الجاكيت مع البنطال) تحتاج لمدة عشرة أيام بينما (الجاكيت مع الجلابية) فذلك يحتاج إلى مدة أطول تقدر بخمسة عشر يوماً.

وكما يشير "خوجة" لقد تضاعف سعر التفصيل بالوقت الحالي نتيجة غلاء المواد الأولية من خيطان وإبر ومقصات وكهرباء ومحروقات وصيانة ماكينات الخياطة، وقد يصل إلى قرابة المئة وسبعين ألف ليرة بينما في السابق لم يكن يصل للخمسة الآف ليرة.

الخياط صلاح عساني

وعن الفروقات في خياطة اللباس بين السابق والزمن الحالي يقول الخياط "خوجة": «في السابق كانت كل ماكينات الخياطة تعمل من خلال ضغط القدمين على أرجل الماكينة مع تحريك الدولاب العلوي باليد، واستخدام الخيط والإبرة والكشتبان، ومع تطور التكنولوجيا أصبحت ماكينات الخياطة المستوردة كهربائية».

ويضيف: «ما زال البعض من أبناء المدينة وحتى هذا الوقت يهوى اللباس العربي حصراً دون غيره، لعدة أسباب منها اعتقاده بجودة تفصيل اللباس الذي قد يستمر ويخدمه لسنوات طويلة وأسباب أخرى تتعلق بعدم وجود طلبه من (الجلابيات) الجاهزة والمخرّجة بالسوق، والبدانة والنحافة والطول حيث لا يجد طلبه في السوق التجاري فيلجأ إلى التفصيل».

شيوخ المهنة

برع في مدينة "حلب" الكثير من خياطي اللباس العربي وقد أجادوا في تفصيل وخياطة هذا النوع، وذاع صيتهم بين الأهالي حيث كان يشتد الطلب في مواسم رمضان والأعياد.

وكما يقول الخياط الحاج "محمد موفق السلاح" 77 عاماً للمدوّنة: «ليس باستطاعة أي خياط عام تفصيل اللباس العربي، فمن لم يتعلم المهنة في صغره على يد شيخ كار مشهور ومعروف يصعب عليه إتقانها في الكبر.. كان يأتي إلى سوقنا هذا مختلف الزبائن وحتى من المحافظات القريبة، وجمال اللباس العربي لا يعادله لباس بنوعيه المخرّج والعادي، لكن وللأسف بعد غلاء هذا النوع من اللباس وتكلفته المرتفعة، خف الطلب عليه والآن ينحصر عملنا في خياطة البنطال والقميص التجاري وأغلب عائداتنا المالية تعتمد على تصليح و(رتي) ألبسة الزبائن».

ويضيف "السلاح": «قضيت بهذه المهنة مدة 55 عاماً وتحديداً في محلي هنا بـ"سوق الخابية" في "حي باب النصر"، والمهنة موجودة أيضاً في سوق "قسطل الحجارين"، وهذان السوقان كانا يعدّان من أشهر أسواق مدينة "حلب" التي كانت تضم المحلات المكتظة بالخياطين المختصين بتفصيل اللباس العربي.. وللأسف بقيت وحيداً في هذا السوق بعد أن هجر المهنة أغلب ممارسيها لأسباب عديدة، لقد تقلص عملنا كثيراً بعد انتشار ورشات بيع ألبسة الجملة الجاهزة في الأسواق، واتجاه الزبائن نحو تلك الورش لانخفاض أسعارها وتنوع المقاسات وشرائها باللحظة نفسها، ورغم كل شيء آتي يومياً إلى المحل وهذا جزء من حياتي وكياني، وما زال الكثير من زبائني يتصلون بي ويتفقدونني».

بدائل

أما الخياط "صلاح عساني" 55 عاماً من أهالي "حي الحمدانية" فيقول: «تعلمت مهنة وحرفة الخياطة في محل أخي الأكبر "محمد" في سوق "سيف الدولة" لمدة عشر سنوات، تعلمت عنده تفصيل وخياطة اللباس العربي، وبسبب ضعف الإقبال عليها حولت عملي لخياطة القميص والبنطال وبدلات العمل وأطقم السفاري الصيفية وفتح العراوي والأزرار، وأغلب دخلنا في الوقت الحالي يعتمد على تصليح ألبسة الزبائن و(رتيها).. نعاني من غياب التيار الكهربائي الذي يعطل الكثير من عملنا وأوقاتنا».

العامل الخياط "محمد الزين" 22 عاماً قال": «والدي من أمهر خياطي اللباس العربي، وأنا أحببت تعلم المهنة على يديه لما لهذه الحرفة من فن ومهارة، وبالوقت ذاته كان هدفي المحافظة على هذا الأثر الجميل من ماضينا كي لا يندثر في لحظة وغفلة».

تمت اللقاءات والتصوير بتاريخ العشرين من شهر آذار لعام 2022 داخل أسواق "باب النصر" و"الفيض" و"الحمدانية".