عندما يمسك فنان أزميله وأدوات نحته ليقف أمام الكتل الحجرية يعرف مسبقاً ما هو عازم عليه، وماذا سوف يخرج من بين يديه ولأي هدف ينوي صنعه، فلم يخطر بباله يوماً أن يخلق ويبدع شيئاً لمجرد الخلق والإبداع وإثبات المقدرة الطينية أو الحجرية، بل أراد أن يصطلح عما يختلج في نفس صاحب التمثال من مشاعر دينية وثقافية وخلقية.

الموقع التقى بتاريخ 15/2/2011 النحات "منير اسماعيل" ليحدثنا عن فن النحت وتاريخه "بدير الزور" فقال:

لم ينقل المثال فقط الشكل وإنما نقل الحالة التي كان عليها المتعبد هذه من الناحية الدينية، أما ما نقله الفنان بالحياة المدنية فنجد أن هناك العديد من الأواني الرخامية التي تحمل نفس التفاصيل الزخرفية، إضافة إلى بعض الروليفات والتي هي عبارة عن نحت مسطح كان يوضع على الجدار لبعض الأحداث أو يوثق مرحلة ما من تاريخ هذا الموقع

«الحضارات العظيمة توجد على الأنهار العظيمة ومنها نهر "الفرات" العظيم، والتاريخ دوّن بعض المكتشفات الأثرية في منطقة الفرات وخاصة في محافظة "دير الزور"، وهي مهد للإنسان القديم منذ أكثر من ستة آلاف سنة، وأقدمها موقع "بقرص" الأثري حيث تبدل اسمها بتبدل الحضارات التي مرت عليها، ولو عدنا إلى تاريخ "دير الزور" الحديث، فالنحت كما الرسم يعود تاريخه إلى منتصف القرن العشرين تقريباً بحكم الوضع السائد في ذلك الزمن اجتماعياً وتاريخياً، والمؤشر الهام هو عودة الفنان المرحوم "خالد الفراتي" من ايطاليا عام /1960/، وبعدها اشتغاله مع الفنان "علي هنيدي" منذ بداية الستينيات في مشغل يقع تحت فندق "أمل" في الساحة العامة "بدير الزور"، وهو أول مرسم في تاريخ "دير الزور" الحديث حيث كان "خالد الفراتي" يعمل على الرسم وبعض المنحوتات الواقعية و"علي الهنيدي" يعمل على تقليد اللقى الأثرية الموجودة في المنطقة على شكل دولييفات نصفية صغيرة وبعضها مطلي باللون الذهبي».

ياسر شوحان

وتابع إسماعيل حديثه بالقول:

«في عام /1967/ وبتكليف من البلدية قدم "خالد الفراتي" و"علي الهنيدي" عملاً نحتياً يتألف من فدائيين اثنين أحدهما يقوم بطعن جندي صهيوني، والآخر يقوم برفع العلم في الساحة العامة "بدير الزور" وهي أعمال واقعية كلاسيكية ومنفذة من مادة الجبس وبالحجم الطبيعي للإنسان، وفي منتصف الستينيات بدأ يسطع نجم النحات "مروان قنبر" حيث قدم عمله النحتي العامل الموجود في اتحاد العمال والنصب التذكاري للجندي المجهول، والذي أزيل لأسباب عمرانية».

الشاعر الفراتي.

وأشار "إسماعيل" إلى الأعمال النحتية التي قدمت في "ديرالزور" فقال:

«في السبعينيات تخرج كل من "فواز بكدش" و"عبد الحي حطاب" من كلية الفنون الجميلة "بدمشق"، ثم قدوم النحات "محمد بعجانو" للتدريس في "دير الزور" فكان له الأثر الكبير في تقديم منحوتات للمدينة فنفذ "فواز بكدش" تمثال الشاعر "محمد الفراتي" وكان يعتمد في صياغته على الواقعية الكلاسيكية، أما "عبد الحي حطاب" فقد اشتغل على "الروليف" والمنحوتات الخشبية وكذلك تصميم الدروع والميداليات، وبعض الأعمال الخزفية وله معرض فردي في صالة نقابة الفنانين التشكيليين في "دير الزور" عام /2002/».

الرسوم الجدارية

منذ حضارة مملكة "ماري" في القرن الثالث قبل الميلاد مرّ فن النحت في المحافظة بمراحل عديدة ومختلفة، تنوعت فيها أساليب الابتكار ومدارس فن النحت واتجاهاته وموضوعاته وفقا للجو الثقافي والاجتماعي وللقواعد والمعايير والمفاهيم الفنية التي اتسمت بها الساحة الفنية في كل عصر ومرحلة، لينتج الفنانون "الفراتيون" إبداعات نحتية بأساليب فنية متنوعة ورؤى متجددة وأدوات مختلفة، وللتعرف على الناحية الأثرية لفن النحت التقينا الآثاري "ياسر شوحان" رئيس دائرة الآثار السابق "بدير الزور" والذي قال:

«يعود فن النحت في موقع "ماري" إلى الألف الثالث قبل الميلاد، هذا الفن الذي يعود إلى المدرسة الرافدية في نحت الأشخاص، فالمثال في مملكة "ماري" قام بنحت الرموز الشخصية من كهنة وملوك وأشخاص بارزين، إضافة إلى بعض الأواني المنحوتة من الحجر والرخام والحجارة الهشة، كما تميز فن النحت بماري عن بقية مناطق الفرات الأوسط أنه كان يخدم المعبد بكافة تفاصيله، فنجد أن الوضعية التعبدية نفسها في كل التماثيل، فاليد موضوعة أمام الصدر والعيون بارزة بشكل أكبر من الشكل العادي والقدمين باتجاه الأمام وأغلب ما تكون التماثيل عارية الصدر للذكور ومغطاة للإناث».

وأضاف "الشوحان" بالقول:

«لم ينقل المثال فقط الشكل وإنما نقل الحالة التي كان عليها المتعبد هذه من الناحية الدينية، أما ما نقله الفنان بالحياة المدنية فنجد أن هناك العديد من الأواني الرخامية التي تحمل نفس التفاصيل الزخرفية، إضافة إلى بعض الروليفات والتي هي عبارة عن نحت مسطح كان يوضع على الجدار لبعض الأحداث أو يوثق مرحلة ما من تاريخ هذا الموقع».

وأوضح الباحث الآثاري "يعرب العبد الله" المكتشفات الأثرية في مواقع "دير الزور" فقال:

«الآثار الهامة التي تم اكتشافها في كل من ماري وترقا ودورا أوربوس تدل على أن فن النحت آنذاك تميز بالواقعية والحيوية من خلال تناول الحياة اليومية والطقوس الدينية من زراعة وتجارة وغناء وموسيقا والولائم والمعارك الحربية، كما صمّم النحاتون تماثيل للرجال والنساء والكهنة والملوك والقادة والمغنين والحيوانات والمخلوقات الخرافية، إلا أن الموضوع الديني كان الأكثر شيوعا في الأعمال النحتية وتؤكد ذلك الكتابات المنقوشة على التماثيل التي تحمل أسماء أصحابها وأسماء الآلهة المهداة إليهم».

وأشار الآثاري "رامز علوني" إلى المكتشفات الأثرية الموجودة في مواقع منطقة "الفرات" الأوسط قائلاً:

«تمتلك "دير الزور" العديد من المكتشفات الأثرية ومنها الثور المجنح، وهو منحوت من الألباستر واكتشف في قرقيسيا /البصيرة/ وهو موجود في متحف "دير الزور"، وكذلك مملكة "ماري" التي اشتهرت بمكتبتها الملكية والتي كانت لا تقل أهمية عن مكتبة نينوى وآشور بانيبال وقد عثر في القصر على العديد من التماثيل/ مغنية القصر أورنينا، وربة الينبوع/، كما تم العثور على /25/ ألف رقيم طيني فخاري، كذلك تل الشيخ حمد والاسم التاريخي له /دور كاتليمو/ حيث عثر على رسوم جدارية مزخرفة وملونة وبعض التماثيل الحجرية الموجودة في متحف "دير الزور"، وأيضاً "الدالية أو القورية" والتي يعود تاريخها إلى الألف الخامسة قبل الميلاد وقد صكت فيها العملة».

ما سبق ذكره يدل على أن "دير الزور" الحاضرة لها تاريخ موغل في القدم وتتميز بتعدد الإبداعات والنشاطات الإنسانية علمية فنية ودينية وثقافية واقتصادية وعسكرية.. الخ وبتعدد الحضارات التي مرت على أرضها، وابن هذه المنطقة هو امتداد بشكل أو بآخر لهذا الموروث الإنساني العظيم وأيضاً هو أمين على هذا الموروث وحارس له ومطالب بآن واحد بالإضافة عليه لرفد الإنسانية بامتداد هذا الموروث الحضاري والتاريخي القديم والحي والمتجدد في آن واحد.

يذكر أن المسجلين في اتحاد الفنانين التشكيليين /12/ نحاتاً منهم عشرة من خريجي كلية الفنون الجميلة، والباقيان اعتمدا في تجربتهما على الدراسة الشخصية.