تتوقف حضارة الأمم وثقافتها على جزء من المخزون التاريخي والثقافي والاجتماعي، ولعل أهم الأشياء التي تكشف حضارة الأمم ورقي شعبها تلك الوثائق والمخطوطات الأثرية التي تعبر عن حضارة ماضية، وخصوصاً في تراثنا العربي الأصيل فهو يحتاج إلى من ينقذه من حالة الضياع الذي يعانيه.

eAleppo زار دار "رجب باشا" بمديرية الثقافة بـ "حلب" واطلع على المراحل التي قامت بها "حلب" من أجل الحفاظ على ذلك التراث، الأستاذ "بدر شعبوق" المشرف على وحدة ترميم المخطوطات بدار "رجب باشا" تحدث عن أهمية هذا الفن وبداياته في الدار فيقول: «تعتبر دار "رجب باشا" من الأمكنة الأثرية التي تحمل في طياتها خطوطاً أثرية إضافة إلى قِدمْها وزخارفها التي تزين جدرانها، حيث تتبع الدار إدارياً للمكتبة الوقفية التابعة لمديرية الأوقاف بحيث تعود ملكية دار "رجب باشا" إلى المركز الثقافي بمديرية الثقافة حيث تم اختيارها مركزاً لترميم المخطوطات، وتم التنسيق بين مديرية الثقافة ومديرية الأوقاف للقيام بمشروع خدمة التراث، وهذا يعتبر من أحد أهداف مديرية الثقافة ومديرية الأوقاف بـ "حلب"، ففي عام /2008/ تم إقامة وحدة للترميم اليدوي في "دار رجب باشا"، فكان دور مديرية الثقافة هو تأمين المكان، وفي نفس الوقت كانت مديرية الأوقاف تعمل على نفس الخطا، وتمت الموافقة على دار "رجب باشا" لتكون المكان الأنسب لعملية الترميم لكونها تتمتع بخصوصية أثرية، وتتناسب مع خدمة المخطوط».

هي تعمل جاهدة على تأمين المكان اللازم للترميم اليدوي والآلي، لكن هدفنا المستقبلي إلى جانب الترميم يتركز بصناعة الورق محلياً ليحل محل الورق المستورد وتخفيض نفقات استيراده

وأضاف: «البدايات كانت عام /2008/ حينما أقامت المكتبة الوقفية دورة في ترميم المخطوطات، حيث شارك فيها فريق من المتطوعين للعمل على الترميم، حيث أعلن ولأول مرة في "حلب" عن دورة في فن ترميم المخطوطات وكانت الوحيدة والأولى على الإطلاق، وتم هذا في مديرية الأوقاف وفي كلية الآثار والعمارة في الجامعة لكونهما يلامسا هذا الفن، فبلغ عدد المنتسبين لتلك الدورة /20/ متدربا حيث كانت هناك رعاية علمية أيضاً من مكتبة الإسكندرية بمصر اضافة لرعاية من مركز "جمعة الماجد" في الإمارات، واستمرت الدورة لمدة /40/ يوماً بحيث أصبح الكادر مؤهلاً وبشكل عملي في ترميم المخطوطات، وقد رُممَ في تلك الدورة مصحف ومخطوطتان تضم أجزاء من القرآن الكريم تعود منها إلى العصر العثماني بحوالي /300 ـ 400/ عام، وأخرى إلى العهد المملوكي تعود قرابة /600/ عام».

الأستاذ "بدر شعبوق"

وحول الإنجازات التي قدمها كادر فريق الدورة الأولى بين قائلاً: «بدئ بمباشرة ترميم المخطوطات الموجودة في المكتبة الوقفية في الجامع "الأموي الكبير"، والتي بلغت قرابة /400/ مخطوط، منها ما هو نفيس ونادر كنسخة مصحف "حلب" النادرة، حيث تعود إلى العصر المملوكي وبوزن /40/ كيلو غراماً، وضمت بعض النسخ كتابات بالخط الكوفي وعلى الطريقة الفارسية ولا يوجد لها مثيل إلا في متحف "سيزر" بـ "إيران" وكانت معظم هذه المصاحف مصابة باصابات خطرة، وتم خلال عام ترميم /20/ مخطوطة».

وعن استمرارية إقامة مثل هذه الدورات أشار بالقول: «في عام /2009/ أقامت المكتبة دورة ثانية لترميم المخطوطات ولكنها اختلفت عن طرق الترميم اليدوي بالدورة الأولى بحيث اعتمدت فيها على الترميم الآلي من خلال حصولها على الجهاز، وتم وضعه في المدرسة "المستدامة"، من خلال تخصيص غرفة كبيرة لتكون مكاناً للترميم الآلي، أجريت الدورة على هذا الجهاز وامتدت على مدى /24/ يوماً تدرب فيها /16/ متدربا بمختلف الاختصاصات الجامعية، كالأدب العربي، والآثار، والشريعة واللغة الإنكليزية، وحين الانتهاء من الدورة بدأ الفريق في ترميم المخطوطات العلمية بحيث رمّمت /32/ مخطوطة في هذا المجال اضافة إلى مخطوطات أخرى، وقد أُخذت عن كل مخطوطة صورة رقمية، واستطعنا إنقاذ سجل أوقاف مدينة "حمص" من خلال عملية الترميم، وفي عام /2010/ أقمنا دورة ثالثة لترميم الوثائق الأثرية ولما لها من قيمة مهمة، بحيث أقيم في دار "رجب باشا" ورشات للترميم اليدوي وكانت مدتها أسبوعا بحيث رمّم /18/ وثيقة والآن تجري عمليات للترميم بين ما هو عثماني وما هو أقدم من ذلك تحمل في طياتها فرمانات، ملكيات».

"المصاحف" التي رمّمت

غرف وأدوات الترميم بـ "دار رجب باشا".

وعن توزيع غرف الترميم في الدار أضاف: «تضم الدار ثلاث غرف، منها غرفة للمرممين، وغرفة للمرممات، وغرفة ثالثة مشتركة توضع فيها أدوات الترميم كـ "المكبس"، أجهزة التصوير والخلط، أجهزة التصوير الرقمي، وبودرة الترميم واللواصق وأدوات التجليد والخياطة والأدوات التي تزيل اللواصق القديمة ومقياس للحموضة والملاقط والمقصات ومستلزمات طبية وغيرها، ويشمل أيضاً مرسما زجاجيا لسهولة التعامل مع الورقة».

المتطوع "محمد نور صوا"

عملية ترميم المخطوطات

واستطرد "شعبوق" حول عملية الترميم قائلاً: «الترميم هو إعادة تأهيل الوثيقة إلى وضعها السليم قبل اهترائها، فقبل كل شيء نقوم بأخذ صورة رقمية بالوضعية التي وصلت إليها، عندها نعمل على إزالة الأتربة والأوساخ العالقة بها وتعقيمها للقضاء على أية آفة بيولوجية قد أصيبت بها بسبب سوء التخزين، حيث إن مواد التعقيم تختلف على حسب الإصابة التي تعرضت إليها المخطوطة، وبعد عملية التعقيم نفكّك المخطوطة إلى صفحات منفردة ونزيل أية ترميمات سابقة، لكي نضيف أجزاء معينة لورق المخطوطة تكون مكملة للأجزاء التي فقدتها تلك الوثيقة، ثم نأتي من صنف الورق الأصلي وندمجه مع صفحة المخطوطة من خلال دمج ألياف القطعة الدخيلة مع ألياف ورقة الوثيقة عن طريق المعالجة الفنية بإدخال ألياف سيلولوزية ما يبعدنا عن سلبية انتفاخ صفحات المخطوطة، لتأتي بعدها مرحلة تهذيب وقص المخطوط لكي يصبح متجانس الحواف حينها تأتي مرحلة خياطة الأوراق من خلال شرائح من القماش القطني الخالص بعد ذلك نضيف قاعدة الشيرازة وهو فن فارسي يعطي متانة للمخطوطة، عندها نكون قد صنعنا الغلاف المصنوع من جلد الماعز لكي يعطي المرونة في الاستعمال، وبهذه الطريقة تصبح من أحد وسائل الحفظ الأولى للمخطوطة، وهناك وسائل أخرى كالمستودع وعلب الحفظ التي توضع الوثيقة بداخلها، وحين الانتهاء من ترميم المخطوطة يتم تصويرها رقمياً وتوضع للإستعمال، وتخبأ النسخة المرممة الأصلية للحفاظ عليها، حيث استطعنا إنقاذ /35 / مخطوطة مصابة بإصابات مدمرة وتم إعادتها إلى وضعها الطبيعي».

شروط حفظ الوثائق في البيت

وختم قائلاً: «يجب تعقيم هذه الوثيقة بمعقمات خاصة والتأكد من خلوها من أية آفة سواء أكانت حشرية أو بيولوجية وتأمين وسيلة الحفظ الدقيقة وعدم تعريضها إلى الضوء المشع أو لحرارة عالية، وأن تكن بعيدة عن الرطوبة قدر الإمكان».

وعن الحاجات الفعلية التي تقدمها تلك الدورات أجاب: «هي الحاجة الماسة لترميم تلك المخطوطات لانتشالها من الوضع البائس، بحيث كانت معرضة لجميع انواع الإصابات، فكانت هناك رؤية لصيانة تلك المخطوطات من خلال الاعتماد على الكوادر التطوعية وتم هذا حينما افتتحت مديرية الأوقاف عدداً من الدورات بحيث اشترطت على المتطوعين المتابعة المستمرة ولفترة سنة من بعد التخرج في الدورة، لأن التراث تراث بلدنا ومن الأهمية بمكان أن نحافظ عليه، فمدينة "حلب" فيها الكثير من المخطوطات وتحتاج إلى عدد من الموظفين ويقدر عدد المخطوطات فيها /500/، وهذا عائد بسبب قيام مديرية الأوقاف بجمع المخطوطات وتخزينها من أجل الحفاظ عليها ولكن أعداد المخطوطات في تزايد مستمر».

وحول رؤية مديرية أوقاف "حلب" في تأمين مبنى للترميم اليدوي والآلي ختم "شعبوق" قائلاً: «هي تعمل جاهدة على تأمين المكان اللازم للترميم اليدوي والآلي، لكن هدفنا المستقبلي إلى جانب الترميم يتركز بصناعة الورق محلياً ليحل محل الورق المستورد وتخفيض نفقات استيراده».

ومن بين المتدربين تحدثت "سامية بوادقجي" إحدى الطالبات لتشرح لنا عن سبب إقدامها لتلك الدورة فتقول: «تعلمت من هذه الدورة الأخطاء التي وقعنا بها في السابق ومن بينها ألا نضع أية وثيقة في أي خزانة خشبية لأن الخشب يضر بالمخطوط بشكل عام، ولكي نتجنب ذلك علينا وضعها على لوح زجاجي أو حديد مطلي بمادة عازلة بعيداً عن أي مصدر للحرارة والرطوبة، لأن واجبنا يحتم علينا الاهتمام بها أشد الاهتمام لأنها في النهاية تشكل تراثنا وارثنا الحضاري».

لكن المتدرب "محمد نور صوا" استفاد من تلك الدورة حينما رمم مصحفا قديما في منزله قائلاً: «إن الورق قد تعرض للثني وهذا كله عائد لسوء الحفظ الذي أدى إلى فقدان الورقة للمرونة المطلوبة، فإن أول العوامل التي تتلف الورقة هو تعريضها للرطوبة العالية وللحرارة العالية إضافة إلى أن الهواء يساهم في ذلك إن كان ملوثاً بالجراثيم».

وختم كلامه قائلاً: «إن ترميم المخطوطات وتأهيلها يساعد المحققين بالبحث وإيجاد كتب لم يعرفها الكثير منهم وهي تقدم أشياء جديدة تلامس الواقع بحيث تفتح أبواباً جديدة في الأدب والفقه إضافة للخط العربي الذي يمتد بجذوره العميقة إلى الفن العربي، وتؤدي هذه المخطوطات دوراً هاماً في محاججة المستشرقين وترد عليهم شبهاتهم».