الخطبة تلك اللحظات التي تمزج قلبين أحدهما بالآخر فتتشكل علاقة عاطفية يتبادل فيها الخطيب والخطيبة فيما بينهما أعذب الكلمات فتنشأ علاقة ودية تغلفها الرحمة والألفة، وبما أنّ الزواج حاجةٌ إنسانية فكان من الطبيعي أن يكون له قدر من الأهمية في الأدب وأوّل خطوات الزواج تبدأ بالخطبة.

eAleppo زار الأستاذ الدكتور "محمد حسن عبد المحسن" رئيس قسم اللغة العربية في المعهد العالي للغات وحدثنا عن معنى الخطبة والزواج لغة بالقول: «أولى خطوات الزواج تبدأ بخاتم الخطبة في إصبع "الخطيب" و"الخطيبة"، ويسمّى الخاتم باللهجة الحلبيّة "المحبس"، ومشتقٌّ من مادّة "حبس".

إن كان "العريس" من طبقة فقيرة يبقى الخاتم ذهباً دون أية أحجار كريمة من "الماس" وغيره، وأحياناً يضعون شرطاً على أن يكون خاتم الخطبة مزوداً بأحجار كريمة من "الماس" و"لؤلؤ" ويتفاضلون على نوعه أيضاً وهذا كله يتم في الطبقات الغنية وعند الطائفة المسيحية يشترطون بأن يكون للمحبس قيراط معين

يقول "خير الدين الأسدي" في موسوعة حلب المقارنة إن محبس الخطبة يلبس في بنصر اليمنى- الإصبع الثاني من يمين أصابع اليد اليمنى- كلّ من "الخطيب" و"الخطيبة"، وإن تمّ الزواج نقل إلى بنصر اليسرى- الإصبع الثاني من يسار أصابع اليد اليسرى"- وهذا المحبس رمز لحبس النفس على الرفيق الواحد.

د. "محمد حسن عبد المحسن"

وترجع أصول هذه العادة لحديث "الرسول" صلى الله عليه وسلم "التمس ولو خاتماً من حديد"، وقد جرت العادة في ذلك».

مواصفات الخاتم الحلبي

خاتم "العريس" يكون من "الفضّة" أو من "البلاتين"، ولا يمكن بحالٍ أن يكون من "الذهب"، لأن الإسلام يحرِّم على الرجال التزيُّن به، وخاتم العروس عبارة عن خاتمٍ بلا فصٍّ مصنوع من "الذهب" الخالص وأضاف "عبد المحسن": «تلبسه "العروس" في احتفاليّة الخطبة من بعد اتفاق أهالي الخطيبين ورؤية كلٍّ من العروسين للآخر، فهي أوّل خطوةٍ رسميّة تربط الطرفين فيما بينهما، وفي نهاية الاحتفال تقوم جدّة العريس- والدة أبيه- بتقديم "الخاتم" وإلباسه "للعروس"، وتقول في أثناء ذلك:

أ. "فؤاد هلال"

"هاها مدّي إيدك اليمين / هاها يا خلقة ربّ العالمين

هاها ويا قماش غالــــي / هاها والدراع بالملاييـن".

العلامة "خير الدين الأسدي"

وجرت العادة أيضاً بتقديم هديّة "للعروس" مع خاتم الخطبة، وتكون ذهباً إما من "أساور" أو "خواتم" أو غيرهما، فتلبسها إياه الجدة مع الخاتم قائلةً:

"هاها مدّي إيدك الشمال / هاها يا خلقة الرحمــن

هاها يا قماش غالـــــي / هاها والدراع بألف دينار".

وإذا كانت جدّة "العريس" متوفّاةً أو غير موجودةٍ، فتنوب عنها عمّة "العريس" الكبرى في إهداء "الخاتم" للعروس، وفي حال عدم وجودها أيضاً تقوم "أمّ العريس" بذلك».

خاتم العريس.. عادات وتقاليد

يقوم أهل "العروس" بشراء خاتم "العريس" ويحتفظون به لكي تقدمه "أم العروس" للمرأة التي تهدي ابنتها خاتم الخطبة، وأشار "عبد المحسن" قائلاً: «فيه رمز لطبيعة العلاقة التي يتمنّاها كلٌّ طرف بالآخر، حينما يتفاءلان بحياةٍ مديدةٍ أبديّةٍ، وسبب اختيار "الخاتم" رمزاً دون غيره "كالسّوار" مثلاً يرجع لارتباطه بالمرجعيّة الدينية من جهةٍ، وإلى الذوق "الحلبي" حينما اصطفى الخاتم ليعبر عن العلاقة التي تربط بين الخطيبين من جهةٍ أخرى، فهناك ترنيمة شعبيّة حلبيّة شائعة تقول:

"أوّل عشرة محبوبـي / هداني خاتم ألمـــاس

وهادا حظي ومطلوبي / وهادا اللايق بين الناس".

و"للخاتم" مسحةً من التقديس في التراث "الحلبي"، فهو يشكل لعبة في السهرات التي يقضيها أهالي "حلب" ومن بينها لعبة "خود هات" حيث يصفها "خير الدين الأسدي" في الجزء الأول صفحة /83/ من موسوعته قائلاً: «خود هات: يخبأ الخاتم في يد أحدهم وتدور الأيدي المتماسكة يميناً ويساراً وعلى المراقب أن يهتدي أين الخاتم إذا سكنت الأيدي».

وهناك أيضاً لعبة "خاتم العبّ"، والعبّ هو منطقة صدر "الإنسان" يقول "الأسدي" في نفس الجزء: «خاتم العبّ من ألعاب السهرات- غير خود هات- يجول من عند أحدهم الخاتم على القوم مدخلاً يده في عب كل واحد منهم ثم يسأل أحدهم أين صار الخاتم مخبأ؟ ولكنّ سؤاله باللغة العامية يكون- أنا بحبك وبحب اللي بحبك، وأنته لمن بتحب؟- فيقول.. بحب فلان، يريد عنده الخاتم، فإن عرف جلس مكانه وإلا تم لسعه، ويدل هذا على مقدار القداسة التي يحتفظ بها "الحلبيون" للخاتم كرمزٍ في نفوسهم، فمن ألوان تهكّمهم قولهم- بلبق لكرمو خواتم بأصبيعو- فـ "الخاتم" رمزٌ للمكانة الرفيعة والتقديس والكرامة في الذوق الشعبي "الحلبي"».

الخاتم سمة الذوق في "حلب"

لبس خاتم الخطبة فيه أسلوب مهذّب ذكيّ في إشهار ارتباط الخطيبين واستعدادهما لخطوة الزواج اللاحقة، والتعبير بأسلوب الرمز والتلميح سمةٌ بارزةٌ طبع بها الذوق الحلبي، وتابع "الدكتور": «إن لبس الخاتم باليد اليمنى عائدٌ إلى التيامن الذي أمر به الشرع الإسلامي تفاؤلاً بالخير والبركة، وحين انتقاله إلى البنصر الأيسر في ليلة الزفاف إنما هو التقريب إلى القلب، إذ يقبع "القلب" في الجهة اليسرى من أجسامنا، وبالتالي ففيه رمزٌ إلى ارتقاء العلاقة التي كانت تجمع ما بين الخطيبين ابتداءً من ليلة الزفاف، ولعلّ من نافلة القول أن نشير إلى أنّ تميّز شكل خاتم "الخطبة" عن غيره من أشكال الخواتم هو تميُّزٌ مقصودٌ لذاته، فهو يخلو عن أيّ حليةٍ من المجوهرات أو الفصوص، كما أنّه لا يشبه أيَّ خاتمٍ آخر، وسرُّ هذا التميّز يرجع إلى حرص الحلبيّين على إضفاء مسحةٍ من القداسة والخصوصيّة على مدلول هذا الخاتم ووظيفته، فهو ليس خاتماً عاديّاً ليشبه بقيَّة الخواتم، وبالتالي يُضمن بتلك الخصوصية حُسن تعبير الرمز عن مدلوله على أتمّ وجه».

تشابه الخاتم في المجتمعات العربية

في ختام حديثه أشار "عبد المحسن" إلى التشابه الكبير في العادات والتقاليد بين المجتمعات العربية حيث يضيف: «ربّما تتقارب عادات وأعراف المجتمعات العربية بشكلٍ عام، وذلك عائدٌ إلى وحدة المنهل الذي ترشف وتصدر عنه، إلا أنّ لكل شعبٍ من تلك الشعوب طريقته الخاصّة وفنّه المتميّز في التعبير عن تلك العادات، في نمطٍ يكون للأدب والذوق الشعبيّ فيه القدح المعلّى في إبراز خصوصيّة شعبٍ من تلك الشعوب وتميّزه عن غيره من الشعوب».

وأما بالنسبة لجمعية "العاديات" فقد أشار نائب رئيسها الأستاذ "فؤاد هلال" حول الخاتم "الحلبي" وتشابهه في كلا الديانتين المسيحية والمسلمة قائلاً: «تتنوع عادات الخاتم في "حلب" بسبب تعدد المجتمعات فيها فلكل ديانة عاداتها وتقاليدها فالعرس "الحلبي" يسبقه فترة الخطبة والوعد بالزواج وهي مهمة ففيها يتم اختبار العقول والأخلاق لكلا الطرفين ويتم رؤية بعضهما بحضور الأهل ويسمح لهما بالخروج في بعض الأحيان، هذه تشكل السمة الغالبة لكلا الديانتين في المجتمع "الحلبي" فإجراءات الخطبة عند الطائفة المسيحية تتم بالذهاب إلى الكنيسة لأن رجال "الدين" مفوضين في أمورها بسبب عدم وجود موظفين مختصين بأمور الزواج في الدوائر الرسمية مثل المجتمعات الإسلامية».

التشابه في عادات الخطبة لكلا الديانتين

حينما تتم مراسم الخطبة فإن أقارب الخطيبين من كلا الديانتين- المسلمة والمسيحية- يقيمان حفلاً على اختلاف عاداتهما وأوضح "هلال" قائلاً: «فالرجال والنساء يجتمع بعضهم مع بعض في حفل خاص وهذا يتم عند الديانة المسيحية وأما في الإسلام فيفترق الرجال عن النساء، وعند كلا الديانتين يلبس الخطيبان فيهما محابس الخطبة في بنصر اليد اليمنى ومنها ينتقل إلى بنصر اليد اليسرى عند الزواج والارتباط مع بعضهما، وهذه العملية تتم من خلال "المحبس" غير "الخاتم" طبعاً، لأن الخاتم يدخل في جملة الهدايا التي تقدم للعروس إضافة للإسوارات والعقود وغيرها، والمحبس بشكل عام يعني الارتباط بين الشاب والفتاة وحبس كل واحد منهما للآخر من خلال إشهار جماعي لأهالي الخطيبين».

قيمة ونوع خاتم الخطبة

تتوقف نوعية الخاتم وقيمته على حسب امكانية الخطيب المادية وأضاف "هلال": «إن كان "العريس" من طبقة فقيرة يبقى الخاتم ذهباً دون أية أحجار كريمة من "الماس" وغيره، وأحياناً يضعون شرطاً على أن يكون خاتم الخطبة مزوداً بأحجار كريمة من "الماس" و"لؤلؤ" ويتفاضلون على نوعه أيضاً وهذا كله يتم في الطبقات الغنية وعند الطائفة المسيحية يشترطون بأن يكون للمحبس قيراط معين».

الفرق بين المحبس والخاتم

هناك فرق بين المحبس والخاتم قدمها لنا "هلال" وبيّن فيها: «إن الخاتم في أصله للختم، فقديماً كان الناس يحفرون أسماءهم على الخاتم من أجل ختم أي ورقة أو كمبيالة يكتبونها وكان هذا بمثابة إمضاء يتعهدون به، لكن وبمرور الوقت انقلب خاتم التعاقد إلى خاتم الخطبة وأصبح عُرفاً في الأمور الاجتماعية كالخطبة والزواج وظهر بأشكال عديدة ومتنوعة وأحياناً يتم الحفر على الخاتم بحروف الاسم الأول والأخير من اسم الخطيب بينما المحبس بقي للربط بين الأنثى والذكر في أمور الخطبة والزواج».

وكانت هناك رواية حول كتابة اسم الشخص على الخاتم وبها ختم كلامه وقد نقلها على لسان العلامة "الأسدي" قائلاً: «حينما كان الخاتم يستخدم للختم بمثابة التوقيع على الورقة كان هناك شخصاً يعمل على حفر الأسماء على الخاتم ويسمى "مصمم الأختام" ويأخذ قرشاً واحداً على كل حرف يحفره على الخاتم، فجاءه شخص وطلب منه حفر اسم "خس" على الخاتم وحينما اكتمل الحفر إلا النقطة ليضعها على حرف الحاء لتكون خاء وتشكل اسم "خس" حتى شعر بضربة من صاحب الخاتم ليوقع يده على آخر حرف السين لرسم نقطة عليه ومنها تحول آخره إلى حرف النون وبذلك تغير اسم الشخص من "خس" إلى "حسن" وقد لجأ إلى تلك الطريقة حتى يوفر "حسن" لجيبه قرشاً واحداً».