حين تزور مقهى "ورق عتيق" المقهى الثقافي الأول من نوعه في مدينة "اللاذقية"، تجد القلب يسبق كل الحواس، هنا حيث تشتم رائحة الثقافة والفنّ من خلال لوحات الفنّ التشكيلي الناطقة على الجدران، ومكتبة تذخر بكتب منوّعة وصوت عود تصدح موسيقاه، وابتسامات لشاب وشابتين من مصابي "متلازمة الحبّ" يعملون في المقهى ويتقنون الحياة على طريقتهم.

الصفحة الأولى

نقلّب صفحات "ورق عتيق" مع مؤسسة المقهى "لينا ضاهر"، فتحدثت قائلة: «منذ أشهر قليلة ولد في "اللاذقية" أول مقهى ثقافي يدمج ذوي الاحتياجات الخاصة بسوق العمل "متلازمة داون"، فكرة راودتني كثيراً بتأسيس هذا المقهى المتخصص ليكون للمهتمين بالشأن الثقافي وجهة مختلفة وفريدة، ولتحقيق الهدف الأساسي بدمج ذوي الاحتياجات خاصة بسوق العمل، "ورق عتيق" هو فكرة وليس مكاناً، مساحة تجمع كل الأشخاص الذين يتقاسمون الأشياء والاهتمامات الجميلة.. دخلت الفكرة حيز التحقيق والتنفيذ حين طرحت منظمة "UNDP" مشروع تحدي "الفكرة الأفضل"، فقد كان مشروعي بعنوان "اقرأ" كنت من بين 27 مشروعاً فائزاً، قدمت لي المنظمة منحة للبدء بالمشروع، المقهى يشبه الحياة المفعمة بالسلام والمحبة، لدينا الثقافة، الأدب، القراءة، الفنّ، والموسيقا، ولدينا يوم ترفيهي من كل شهر للسيدات لنمارس كل الأشياء التي نحبها».

أحب المكان والموسيقا، وأحب العمل والزوّار الذين يأتون إلى هنا لدرجة أنني أتمنى البقاء ليلاً ونهاراً

بيئة آمنة

تجارب حياتية منوّعة تبلورت في مشروع المقهى، وعززها إيمانها بالهدف النبيل في دمج مصابي "متلازمة داون" بسوق العمل، وخلق بيئة آمنة لهم وللمهتمين بالشأن الثقافي وهنا تقول "ضاهر": «مؤمنة بفكرتي ومشروعي وهذا الإيمان يجعلني أستمر كل يوم على الرغم من الصعاب، يعد المكان بيئة آمنة لكل من "عليا" و"مارسيل" و"أحمد" الشباب الذين يعملون في المشروع، وأحاول دمجهم في سوق العمل والمجتمع، وهم مدربون في مراكز تخصصية "Scc"، كما تتم متابعتهم من قبلي، فقد تعرفت على هذه الشريحة "متلازمة داون" من خلال عملي التطوعي مع الكنيسة وبعض الجمعيات الأهلية، وجدت بداخلهم الكثير من الجمال والطاقات، وحين أصبحت المدير التنفيذي لجمعية "بشائر النور"، وجدتهم في قسم "إرادة" يعلّمون أولئك الأطفال المشغولات اليدوية والمطرزات، فقد كانوا مبدعين قادرين على نشر طاقة سلام في المكان الذي يوجدون به».

مارسيل - عليا - أحمد

طقوس ثقافية

لينا ضاهر

راودتها فكرة افتتاح مقهى ثقافي منذ زمن، حيث كان لعلاقتها مع الكتاب وحبّها للقراءة الدور في تأسيس ركن يعنى بالكتاب ومحبي القراءة، فتقول: «كنت منذ طفولتي خارجة عن النمطية في قراءة الكتب، وخاصة الأماكن التي أقرأ بها، أحبّ القراءة والكتابة كان وقتي دائماً مليئاً بالقراءة، وعملت والدتي منذ تنشئتنا على توثيق علاقتنا بالكتاب وأهميته، فكان الكتاب يخلق أجنحة لا يمنحها المكان وسفراً أحلق به في كل الأماكن، ونحاول مواجهة الحرب الفكرية بأفكارنا في هذا المكان من خلال طقوس ثقافية متعددة وفنون مختلفة، فقد ركزت اهتمامي على كل تفاصيله من الألوان والديكور وغيرهما، ليأخذ طابع بيت ويسهل الدمج والحركة فاعتمدت البساطة، ومن يرتاد المكان يعدُّه وطناً ويشعر بالسكينة».

مكتبة بنكهة ورق عتيق

لم تكن مكتبة "ورق عتيق" المكتبة الأولى التي أسستها "ضاهر"، فتتحدث: «تشكلت لدي رغبة حين كنت بعمر الثامنة عشر بوجود مكان دافئ وآمن لأقرأ به بعيداً عن التلوث بمختلف أنواعه البصري والسمعي وغيرهما، فكان مقهى "ورق عتيق"، وكان للمكتبة ركنها الخاص، وفوجئت بكمية الدعم حين بدأت بتجميع مكتبة خاصة بالمقهى، فقد تلقيت الدعم من دار "دلمون"، ودار "عين الزهور" التي دعمتنا بمجموعة قيّمة من الكتب بالإضافة للدعم من صاحبها "لوثر حسن" بحضوره الشخصي أو إقامة كل ملتقياته في المقهى، ودعم الأصدقاء من ذوي الشأن والمهتمين، وأصبحت تضمّ الموسوعات والروايات القيّمة والكتب النقدية والتاريخية، وكتب الأطفال واليافعين والأدب العالمي، كما أرسلت هيئة الكتاب في "دمشق" مجموعة من الكتب، وتم إرسال قصص أطفال أيضاً من "دمشق"، وهناك بعض الكتب التي أحبها وأهتم بها، وتتم إعارة الكتب داخل وخارج المكتبة، وهي المكتبة الخامسة التي أقوم بتجميعها».

سهرة موسيقية

جدران الفنّ

تفاصيل المكان ملأى بالألوان والملامح الفنية، تقول "ضاهر": «الحروب أخرجت أجمل ما فينا ونرى البشاعة التي سببتها، ولكن لم نواجهها بالمثل بل بالجمال الذي ينبع من الفنون كالرسم والقراءة والموسيقا، فهنا على الجدران معرض فنّيّ دائم لجمعية "أرسم حلمي" التشكيلية التي تنشر الجمال من خلال اللوحات وتنشر ثقافة الفنّ وتعززه للنهوض بالمجتمعات، وفي حال تم بيع اللوحات تعود لصاحبها كنوع من الدعم للفنّ، كما أن للموسيقا مكانها في المقهى من خلال سهرات العود، وهي فرصة لوجوه غير معروفة للعزف والغناء، ونلمس تفاعلاً إيجابياً في كل سهرة نقيمها».

وتضيف: «تشغل الأعمال اليدوية من المطرزات والإكسسوارات والشموع، والصناعات الغذائية من مخللات وماء زهر، زاوية مهمة في المقهى لعرض مشغولات مصابي "متلازمة داون"، ونقوم بتوجيه قنوات الدعم لهم من خلال عرض وبيع المنتجات، وتغيير ثقافة الهدية لدى رواد المقهى وشراء منتجاتهم لتحفيزهم على العمل والإبداع، والمكان مفتوح لأي جمعية أو ذوي احتياجات لعرض منتجهم، كما نقدم في المقهى حلويات تصنعها سيدة تعاني من تصلب لويحي وهي محاولة تهدف لتمكين المرأة، فكل تفصيل في المكان له هدف».

محبة ورعاية

يسود جو من الحنان والمحبة والاحترام، بين مؤسسة المشروع "لينا ضاهر" و"مارسيل" و"عليا" و"أحمد" العاملين في المقهى، فتقول "مارسيل سكيف" 35 عاماً: «أحب المكان والموسيقا، وأحب العمل والزوّار الذين يأتون إلى هنا لدرجة أنني أتمنى البقاء ليلاً ونهاراً»، ثم تضيف "ضاهر" على كلام "مارسيل" قائلة: «أصبح لها مكانة وحضور بين الزوّار وتحسن سلوكها، وأصبح التحسن ملموساً لدى أهلها في المنزل، وأعتمد عليها في المقهى بشكل كبير».

طاقة إيجابية

أما شاعر الزجل "أركان سعيد" من أصدقاء "ورق عتيق" فتحدث قائلاً: «أشعر حين أزور "ورق عتيق" أنني أزور نفسي، وهناك مساحة هائلة من الراحة يجدها من يقصد المكان، ورواده لهم طابع خاص في التواضع والمعرفة والثقافة، ونشعر كرواد أننا ننتمي للمكان ونعرف بعضنا ونتبادل التحيات والأحاديث، وتغرينا تفاصيله الغنية والمنوّعة، والمكتبة تأخذ حيزاً كبيراً لدى رواده من الشعراء والكتاب ومحبي القراءة، كما أن الهدف الذي ترمي إليه "لينا ضاهر" في مشروعها الخاص بخروجها عن التقليد بدمج مصابي "متلازمة داون" وإيجاد فرص عمل لهم أعطى المقهى طابعاّ فريداً».

ويتابع قوله: «لم أكن من قبل على تماس معهم ولا أعرف هذه الشريحة وحين اختلطت بهم وجدت المحبة والإيجابية، هم أناس حقيقيون لديهم طاقة جميلة تنشر المحبة والسعادة في كل مكان، نستطيع أن ندعمهم من خلال المكان الذي أفرد جناحاً لعرض وبيع منتجاتهم اليدوية، فقد استطاعت فكرة المقهى أن تقنع وجوهاً معروفة ومهمة في الوسط الثقافي بحضورهم ودعم وإغناء فكرة "ورق عتيق"».

تجدر الإشارة إلى أن مقهى "ورق عتيق" منبر ثقافي مفتوح لكل من يريد دون مقابل، ويتم تأمين دخل المكان من مبيعات المشروبات والأطباق المحضرة يدوياً.