فقد بصره ليتلمس بمخيلته طريق الإبداع، فلم تثنه إعاقته عن تحقيق ما يصبو إليه، الإرادة الصلبة وحب التميز هما اللذان دفعا الشاب "محمود المبيض" إلى النجاح في أماكن عجز عنها المبصرون.

صحيح أنني فقدت بصري لكن ما يزال لدي جسد كامل أستطيع أن أبصر من خلاله، فالإعاقة الحقيقية هي أن تستسلم وتكون مسلوب الإرادة هنا تكون قد فقدت نفسك؛ هذا ما بدأ به الشاب "محمود المبيض" حديثة لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 10 آب 2015؛ الذي فضَّلَ أن يبدأ بالتعريف عن نفسه قائلاً: «ولدتُ في مدينة "دمشق" عام 1993 لأعيش حياة طبيعية ضمن أسرة متواضعة، مراهقتي في سن مبكرة جعلتني خارج إطار المدرسة وأنا في الصف الأول الإعدادي، لأعمل مع أخي في ميكانيك السيارات، وبعد خمس سنوات أتقنت المهنة وأصبحت معلم ميكانيك، كما عملت معلم "شاورما" في أحد مطاعم "دمشق" إلى أن كان عام 2011 التحقت بالخدمة العسكرية وكان ذلك في بداية الأزمة، وأثناء خدمتي تعرضت للإصابة خمس مرات من قبل المجموعات الإرهابية كان آخرها عام 2013، حيث تعرضت لإصابة في رأسي فقدت إثرها البصر بالكامل».

أن تأتي إلى الحياة وأنت كفيف هذا محزن، ولكن أن تفقد بصرك فجأة فهذا مؤلم، لكنني منذ البداية تجاوزت ألمي وكان لأهلي الدور الكبير وخصوصاً والدي حيث كان بمنزلة الأب، والأخ، والصديق؛ بصراحة هو عيناي حيث أرى الحياة من خلاله، وأنا باختصار أعدّه التمثال الذهبي

ويضيف قائلاً: «بعد الإصابة عدت إلى أهلي لأبدأ حياة جديدة، تأثرت في البداية لكنني لم أستسلم، حاولت أن أكون إنساناً طبيعياً بدأت من المنزل، حيث اعتمدت على نفسي في تأمين احتياجاتي الخاصة، لم أقبل أن أكون عالة على أهلي ومجتمعي، صحيح أن الأسلوب اختلف لكن الإرادة موجودة ففي فترة علاجي كنت أتعلم، وأعمل بآن واحد، وبمساعدة والدي قررت أن أكمل دراستي كان الأمر تحدياً كبيراً بالنسبة لي، لكنني كنت مُصمماً على ذلك، بدأت تعلم لغة "البرايل"عن طريق الإنترنت بمفردي من دون الحاجة إلى مُدرّس لأتقنها في زمن قياسي، وعندما تمكنت منها التحقت بمدرسة المكفوفين، لكن لم أحصل على القبول في مجال الدراسة لكوني تجاوزت السن المسموح به ، ليتم قبولي كطالب مهني، حيث تعلمت صناعة "القش، والتريكو، والمكاري"، لكنني أبدعت بمهنة "القش" فقد استطعت أن أبتكر تصاميم جديدة؛ فعندما أقوم بأي عمل أتصوره ربما لأن لدي مخزوناً في مخيلتي من حيث الشكل واللون، ويمكنني القول إنني أبصر الأشياء بمخيلتي فهي بمنزلة النظر بالنسبة لي وكل ما أقوم بفعله أتخيله، وهذا ما جعلني أبدع.

أثناء تعلمه العزف على آلة العود

يقول المشرفون على عملي إن المبصرين يعجزون في بعض الأماكن أن يصمموا القطعة بالطريقة التي أعمل بها؛ حيث تكون متناسقة من حيث الشكل واللون، كما تمكنت أثناء وجودي في المدرسة من التقدم لامتحان شهادة التعليم الأساسي، ونجحت ونلت علامة 2600، وأنا اليوم أحضر للشهادة الثانوية لأحقق حلمي بدخول مجال المعالجة الفيزيائية».

ويتابع قائلاً: «أثناء سفري خارج البلد بقصد المعالجة التقيت أشخاصاً استطعت أن أدخل من خلالهم إلى عالم الإلكترونيات، حيث تمكنت من تعلمها وبوقت قياسي أصبحت قادراً على تنزيل البرامج والتعامل معها في كافة التطبيقات عن طريق اللمس "التاتش" وليس "الأزرار"، وأنا اليوم أقوم بتعليمها للمكفوفين من دون مقابل، كما أُتقن استخدام الكمبيوتر والإنترنت وتنزيل البرامج والكتابة على "keyboard” من دون أخطاء حتى تمكنت من صنع برنامج بمفردي، وأنا قادر اليوم على استخدام التكنولوجيا بكل تطبيقاتها والتواصل مع الناس من خلالها؛ وكل ذلك أتى بعد أن أصبحت كفيفاً».

بعض منتجاته في حرفة القش

ويضيف: «على الرغم من الألم الذي خَلّفه فقداني لنعمة البصر إلا أنه جعلني أكتشف نفسي بطريقة أفضل؛ فأنا أحب سماع الموسيقا من حين لآخر، لكنني لم أفكر بتعلمها ربما لأن حياتي السابقة كانت ملأى بالأحداث، والأصدقاء لكنني بعد الإصابة قررت تعلم العزف على آلة العود بدأت منذ ستة أشهر الأستاذ "علي رمضان" أستاذ الموسيقا المشرف على تعليمي يقول: إنني محترف وكأنني أتعلمها منذ خمسة أعوام، كما أنني قررت ممارسة الرياضة لما لها من أثر إيجابي فأنا ألعب "الحديد"، و"البولتيك" وتعلمت السباحة حيث أمارسها في نادي "قاسيون" بطريقة احترافية؛ فأنا أقفز من على "الرانك" وأعلمها للراغبين بذلك حتى إن بعضهم تفاجئني ردة فعلهم؛ حيث يصممون على أنني لا يمكن أن أكون كفيفاً».

ويختم قائلاً: «أن تأتي إلى الحياة وأنت كفيف هذا محزن، ولكن أن تفقد بصرك فجأة فهذا مؤلم، لكنني منذ البداية تجاوزت ألمي وكان لأهلي الدور الكبير وخصوصاً والدي حيث كان بمنزلة الأب، والأخ، والصديق؛ بصراحة هو عيناي حيث أرى الحياة من خلاله، وأنا باختصار أعدّه التمثال الذهبي».

الأستاذ علي رمضان

"خالد المبيض" والد "محمود" يحدثنا عن ولده قائلاً: «بعد إصابة "محمود" وانقطاع الأمل من علاجه أصبح الأمر واقعياً قررنا التكيف مع الظرف الراهن بدأت تشجيعه على العمل لكنه فاجأني وكأنني أتعرف إليه من جديد فقبل الإصابة كانت لديه رغبة بالعمل، لكن في أغلب الأحيان كان يفشل أما اليوم فهو مُصمم ليس على العمل فقط بل على التفوق، لديه طاقه استطاع أن يديرها بطريقة جيدة، أبدع في الموسيقا، وأذهل من حوله باستخدامه للتكنولوجيا، وحرفة القش، والتعليم، وهو ليس هاوياً بل محترفاً وذلك باعتراف من تعامل معه. أرى أن لديه مستقبلاً جيداً لأنه يمتلك الإرادة، فهو لا يحب أن يعامله أحد على أنه كفيف».

"علي رمضان" أستاذ الموسيقا يقول: «الشاب "محمود" إلى جانب امتلاكه لمزايا إنسانية رقيقة، وأخلاق عالية يمتلك حسّاً فنياً بالموسيقا والعزف، التقيته منذ بضعة أشهر، ومن اللقاء الأول تكَّون لدي انطباع بأنه يمتلك حسّاً فنياً وموهبة بحاجة إلى صقل لإبرازها، بدأنا دروس الموسيقا بطريقة السمع، حيث أبدع بها وأظهر إحساساً عالياً بالأنغام وحفظها على الرغم من قصر المدة، وأيضاً أظهر قدرة عالية بإتقان التمارين التدريبية بزمن قصير، وأصبح قادراً على عزف بعض المقطوعات الموسيقية، والأغاني بأسلوب رشيق وزمن قياسي، يتمتع بأذن موسيقية حيث يستطيع أن يميز النشاز، ولدي ثقة بأن النجاح والإبداع سيكون حليفه في قادم الأيام».