يذهبُ به الشعر حدّ ارتكاب المعاصي اللغوية غير عابئ بتورطه في مفازات اللغة، مستنداً في تجربته الشعرية إلى إرث حضاري سوري عميق يتجلى في استحضار مفردات المكان وبيئته إلى متن النص الشعري.

الشاعر "أوس أحمد أسعد" (مواليد القامشلي 1966) شاعر سوري يستكمل هويته الشعرية بهدوء يبقيه في ظل الكلام كثيراً، "التجريب" هي السمة التي يحب أن تطبع بها تجربته، في ظل غرقه الكامل في التجربة الحياتية والشعرية، فمن العمل الفدائي حيث ترك وراءه كل حياته السابقة بجماليتها المفرطة في قرية "بسمالخ" (ريف جبلة)، إلى الشعر حيث عاد محاولاً ملء رئتيه بالحياة مجدداً، سيرة حياة قلقة أنتجت خمس مجموعات شعرية وابنة.

دائماً ما أتصوره وهو يهمّ بكتابة قصيدة، يتحسس الورق لينبت من أصابعه ظبية يكتبها بشرايينه؛ أو يمارس معها الحب في اللحظة الأعلى، إنه شاعر بهجة الأنثى بكل تفاصيلها

في حوراه مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 19 تموز 2014، يرى أن الشعر تليق به مفردتي "الورطة" و"اللوثة"، فهاتان المفردتان على المستوى الشعري حمالتا أوجه، يقول: «أن تتورّط في شيء؛ يعني أن تعشقه حدّ الإدمان، أن تمرض به ذاك المرض الذي لا بُرء منه، وتلك هي لوثة الشعر، أن تقع في الفخّ بمحض إرادتك، كتواطؤٍ ذاتي تحتال به البصيرة لتصل إلى باصرتها، أو أن تجد نفسك تسير مسرنماً ممغنطاً تدفعك قوى لا واعية لا يمكنك الفكاك من أسرها، تشدّك باتجاه الدّاخل، باتجاه النّواة، حيث يتربّع القلب على عرشه وتسبّح بحمده الكلمات، هي حالة أشبه بعشقٍ عارم تجذبك بخيوط أنثى إلى شعلة لا مرئيّة، لتجد نفسك لائبةً كفرَاشات حول اللّهب اللذيذ، وأيُّ لهب..!! فأنت لا تبتغي احتراقاً، إنّما تلك طريقتك في العشق وكفى، وهي الورطة في الجمال على كلّ حال!!».

غلاف "آنية الكلام"

في لعبة الشعر، لا يكفي امتلاك عدة اللعب، بل لا بد من امتلاك مهارته أيضاً، يقول الشاعر: «لا بد ّمن حيازتك مهارة اللّعب، وجودة الأداء، فهما الجناحان اللذان لن يخوناك أبداً، فيما لو تعلّمتَ فنّ الطيران والعلوّ، ليس تحت السّقوف المنخفضة، بل في الفضاءات الشّاسعة، والفنّ عموماً لعبٌ عالٍ، والشّعر خصوصاً، أرقى أنواعه، فهو مهرٌ راقصٌ في حلبات الكلام، ساحته الرّيح وفارسه شاعرٌ "دونكيشوتي" الملامح، واهمٌ كبير يحارب طواحين وفرساناً لا يراها أحدٌ سواه، إنّها لعنةُ الشعر، بل لعبته، بل ورطته، هل قلت محنته أيضاً؟».

يرفض الشاعر بعد خمس مجموعات شعرية تعريف الشعر، ويرى أن تعريفه ينتقص منه، فهو ضد المعيارية، يقول: «كل تعريف وُضِع للشعر منذ القديم وحتى الآن، نرى أنّه أشبه بقميص طفلٍ أعطِي لرجل بالغ كي يرتديه، ولكَ أن ترى المهزلة حينئذٍ، وللعرب موهبتهم العتيقة في الاستيقاظ المتأخّر دوماً، وقضاء الوقت في الشّروحات وإشغال العقول بالنّقل عن المنقول الشّفاهي أصلاً، وهكذا دواليك.. ولنا بـ"مجمع اللّغة العربيّة" خير مثال على تأخّره بمواكبة المستجدّات الهائلة على صعيد المصطلحات الحديثة بمختلف معانيها، لندع التّعاريف لأصحابها ولنشبّه الشّعر بمحيط لا يحيط بجلاله إلا اسمه».

غلاف "بسمالخ حجل يسند البهاء"

إذاً، ما الذي نستطيع إضافته لكلمة "وردة" ليزيدها بهاءً؟ لا توجد إضافات، يقول الشاعر، أمّا تسمية الشّعر بـ"ديوان العرب" فهي عبارة أخلاقيّة تنتمي إلى زمن ربّما كان جميلاً، تشبه كذبة أخرى كانت قد ترنّمتْ الألسن بتداولها وهي: "ما عرف التّاريخ فاتحاً أرحم من العرب"، وقد تكلّستْ في كتبنا وذائقتنا وثقافتنا وأرواحنا وشبعتْ تكلّساً، هي ومقولات غيبيّة أخرى، عُبدَت وأوّلتْ حدّ الانفجار، لأنّها ليست أكثر من بالون كبير، والعرب حالياً لا يملكون فخراً سوى ماض دمويٍّ، رفعوه إلى درجة القداسة وناموا على حريره، وهذه مهنة لا تؤسّسْ لحاضر رزينٍ، يغربل ماضيه ويبني دعائمه على الجيّد فيه، فكيف بالمستقبل؟"

هذه السوداوية المغرقة تنبثق من رؤية الواقع، وفي رحلة البحث عن معادل فني موازٍ لما يحدث، يجد الشاعر نفسه رهين البحث عن معجزة ترمم خزف الروح والذات المهمشة من جديد، كيف ذلك؟ يقول: «عبر المحافظة على مسافة تدّعي الموضوعيّة قدر الإمكان ممّا يحدث، وتلك مسافة تتطلّبها ضرورات الكتابة كما أزعم، ولعلّ المستقبل القريب قدْ يفاجئنا بنتاجات عالية تستطيع ترميم روح الكائن وخرابه وانهياراته التّراجيدية المتتالية، ولا أعتقد أن بمقدور أحد حاليّاً، إلا "الصّراخيين"، أن ينتج ما يمكن أن يلفت الانتباه على الصعيد الأدبي، وهي حالة ستكون أشبه بإثبات الوجود».

مع ابنته "سوناتا"

يحتاج الأدب عموماً والشعر خصوصاً، إلى القراءات المختلفة، نقدياً وفكرياً وإنسانياً، وإلى العين التي تراقب المشهد المواجه للقصيدة، يقول: «الشاعر هو قبل كل شيء، كائن اجتماعي يتأثّر بكلّ ما يجري حوله، وربّما أكثر من غيره على اعتبار أنّه يمتلك حساسيّة عالية تجاه الأشياء، ولكن لعبة الأدب، ورطته، تتطلّب وعياً حادّاً به كفنّ عالٍ، وتكنيكاً لا يوفّره سوى الرّصد المتأنّي لدقائق الأمور وتفاصيلها الجماليّة، والصّقل الهادئ للأدوات بعيداً عن الحالات المنبريّة، التي تفتقد لروح الفنّ عموماً، فالشعر حقيقة يحتاج للمكابدة والتأمّل الشّديدين، بالذّات والعالم، وهذا بدوره لا يمنع من أن تنفلت بعض القصائد من هذا التّوصيف، كحالة أقرب للعفويّة، متأثّرة بانفعالٍ صادقٍ بلا شك بالحدث الجاري؛ ولكنّها ستكون مفتقدة للكثير من التقنيّة والجماليّة، وما يشفع لها هنا فقط هو صدقها وطزاجتها وانتماؤها إلى اللّحظة المعيشة، وما أفضّله على الصّعيد الشّخصي، تلك القصائد العالية التي تأنف الطّيران تحت السّقوف المنخفضة، لأنّها لا تُرضي بتحليقها طائرَ الروح كما أسلفت».

نشر الشاعر عمله الأول بعنوان "للوردة...لـ...؟ لبقايا الخراب"، ثم "آنية الكلام"، ثم "غابة المفردة.. نشيد الغبار الطّلق"، و"بسمالخ.. حجلٌ يسند البهاء"، و"ستفتكُ بك امرأة عالية التفاح"، وثمّة ديوان سادس "سوناتا ـ عذوبة تبعثر الكستناء" مخطوطاً في وزارة الثقافة، كما أن هناك كتاباً نقديّاً هو حصيلة قراءات مختلفة لبعض المنجز الشعري والروائي السوري الحديث بعنوان مبدئيّ "تمارين نقدية"، وكذلك مجموعة قصصيّة قيد التنقيح، بعنوان "أضيق من حذاء".

يقول الناقد "خالد عارف عثمان" عن الشاعر "أوس أسعد" في قراءة لأعماله: «يدهشك نص الشاعر، أين أتيته وحيثما ولجته حيّرك، وحيثما جئته أذاقك حلو ثماره، فاللغة عالية الترف سامية الدلالة، لكنها السهولة الممتنعة، فلا يمكن أن تفهم مقاصد الشاعر من الرشفة الأولى، لا بد لك من العودة إليها بتمهل كي تتناول منها شهي المفردات».

ويقول الإعلامي "علي الحسن" فيه: «"أوس أسعد" يروق له الانحياز إلى الوجه القصي أو المهمّش للمعادلة وكـ"انتباهة سروة"، وفي "منتهى السؤال" تفر الكلمات لديه ثعالب، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمرأة حين تفك قميصها، وهو مثلما يحتفي بالجمال فإنه يحتفي بالخراب، ويحتفي أيضاً بالانكسار والسقوط والقاع والظل والهامش والعزلة والهشاشة وبـ"حصرم أقل" يراقص الجمر ربما على قناديل خافتة تحرس عتبة الدار».

ويختم الشاعر "مازن الخطيب" حوارنا بشهادته عن الشاعر قائلاً: «دائماً ما أتصوره وهو يهمّ بكتابة قصيدة، يتحسس الورق لينبت من أصابعه ظبية يكتبها بشرايينه؛ أو يمارس معها الحب في اللحظة الأعلى، إنه شاعر بهجة الأنثى بكل تفاصيلها».

من ديوانه "بسمالخ":

"لديّ الكثير من الزوفا

وزهر الأوف

لأنجز قدومك".

"ثمة امرأة

تحكّ أنوثتها بالليل

لتجدكَ".